قبل ألفي عام، وتحديدا في العام 69 ميلادي، أنشأ الرومان، في عهد الإمبراطور فلافيوس، حمامًا معدنيًا بمنطقة الحامة في مدينة " ماسكولا"، خنشلة الحالية، شرق الجزائر،عبر تقسيمة تتشكل من مسبحين، دائري ومستطيل، مجهزين بغرف مبنية بالحجارة.
تطور حمام الصالحين، الأقدم في شمال أفريقيا،خلال الفترة الكولونيالية وبعد الاستقلال بمنشئات ومرافق متخصصة، باتت تجذب قرابة المليون سائح حموي في العام.
يتغذى الحمّام، الذي كان موطئ راحة لقادة الجيوش والنبلاء والجمهرة، من مياه جوفية ساخنة تناهز درجتها القصوى 70 درجة.
تطور حمام الصالحين، الأقدم في شمال أفريقيا،خلال الفترة الكولونيالية وبعد الاستقلال بمنشئات ومرافق متخصصة، باتت تجذب قرابة المليون سائح حموي في العام.
يدفع الزائر معلوما ماليا يتراوح بين 300 إلى 400 دج للنوبة، لكن جمهورا من نوع خاص لا تهمه المرافق الفخمة ولا الغرف المؤثثة، كما لا يلقون بالا للأثمان المدفوعة، فهم يأتون بأغراضهم الخفيفة المحملة في أكياس يدوية، للاستحمام والاستجمام، في العراء دونما مقابل حتى يبدو لك بأن ذلك المثل القائل " بلاش ما يحلاش" غير صالح البتة للاستعمال هنا.
مَاءُ الرَّب
وسط ديكور آسر يشع بالخضار والسكينة،ممتلئ بغابات ظليلة من أشجار البلوط والأرز، تنبع مياه جوفية حارة وباردة من الأرض الحجرية والصلصالية متخذة مصبًا جاريًا، يخلف أثره عبر ثلاث برك طبيعية تسمى " القلتات"، وهي متباعدة المسافة قليلا بيد أنها مترابطة من حيث الوظيفة، فالأولى دافئة، والثانية ساخنة، والثالثة باردة، كما لو أنها حمام عصري مغلق وفق التقسيمات الدارجة المتوزعة ما بين" البيت السخونة " و "البيت الباردة".
يلفت نظرك التهافت الكبير للمرتادين من مختلف الفئات العمرية، وهم يتجولون نصف عراة، فجرا وظهرا وليلا، لا بل حتى في أوقات البرد والصقيع، والحر الشديد.
تنزل لمراقبة هذه الحشود غير المنقطعة،وبين هؤلاءالزبائن شيخ مسن يسمى " الحمادي"، لا يتورع كي يقول لـ " الترا جزائر" ضاحكا: " لا أذكر أني دفعت مالا كي أستحم، فأنا أقصد هذه "القلتات" منذ نصف قرن، وهذا الحمام المفتوح على الهواء الطلق هو حمام ربي منذ عصر الرومان "قلّب يشيح"، أما المرافق والفنادق الأخرى فهي مقصد الذين يدفعون، ولكل قسمة ونصيب".
غير بعيد عن المنابع الثلاثة ضريح مبني على طريقة الأولياء الصالحين، وبالقرب منه مصلى مشيد فوق هضبة يقوم فيها الرواد بأداء فريضة الصلاة بما فيها الجمعة، ما يمنح المكان رغم انتشار بعض الأوساخ قدسية رمزية.
فيشرح أحمد 53 سنة، الذي يعرف المكان منذ صباه،ذلك قائلا "لـ "الترا جزائر": "قبل سنوات أغلق البعض هذه المنابع، لنوايا تتعلق، ربما، برغبة إجبار الجميع للاستحمام في الحمامات مدفوعة الثمن، أو كمحاولة من مستثمرين خواص لحيازة الموقع، لكن أمرا غريبا حدث فقدجفت المياه على الجميع فسارع الغالقون إلى فتحها من جديد، لأن الماء هو ماء الله لا ماء البشر، وهذا حمام رب السماء لا أرباب الأرض".
كرنفال عائلي
ثمة بعد غائب آخر يتذكره هذا الكهل يعيده إلى الحنين الأول في لقيا المكان العريق، فيضيف كما لو أنه يتحسر على زمن مضى: " في 1980 كان عمري 9 سنوات وكنت أجيئ إلى هنا، فأشاهد عشرات العائلات التي تأتي من الشريعة وتبسة وخنشلة والعقلة، في الصيف كما في الشتاء.ينصب الرجال الخيام قرب البرك في سلام وطمأنينة، تتعارف النسوة على بعضهن البعض، ويلتئم المنتجعون في مجالس سهر كل ليلة، يتقاسمون فيها الطعام المتبادل من رفيس و شخشوخة وكسكس، كما لو أن النجع عرس كبير، أو كرنفال مصغر، وطبعا لا أحد يجرؤ على إزعاجهم، كما أن اللصوص لا يقتربون من المكان، فهم يعلمون أن أفرادها مسلحون ببنادق صيد، و كل حركة غير محسوبة تعني الحتف و النهاية".
يبرر المتحدث مداومته على المكان بقوله: " علاوة على الاستجمام، فهو موطن دواء إذ شفيتُ من داء المصران بشرب مياه البركة الحارة مباشرة من النبع، وأكرر من ماء النبع المتدفق حتى لا يختلط الأمر على الناس بحكم أن الماء الجاري ممنوع شربه. على هذا يمكن لكل شخص أن يجرب ذلك ليعاين بنفسه تخلص بدنه من الأوساخ الطافحة من الجسم مع تعرق الجلد".
الرشّ والإكزيما
أما المداني، 53 سنة، الذي يأتي إلى هنا منذ سنوات، فيبدو مرابطا للحفاظ على تقليد عائلي راسخ، وهو ورث هذا عن والده المهاجر الذي يفضل الاستحمام هنا كلما عاد من فرنسا لخنشلة، فيقول موضحا: " أنا تاجر ممون أصبت بحساسية جلدية في القدم بعدما دُست على تراب خلال عمل بالعاصمة، ترددت على أطباء كثر وعالجت بعدة حقن، دون جدوى، لكن وبمجرد ما اغتسلت بهذه المياه الحموية زالت تلك الحساسية نهائيا، وحقًا "وجعلنا من الماء كل شيء حيّ" مثلما يرد في القرآن الكريم، ومنذ تلك اللحظة صرت أتردد بشكل شبه يومي على هذه القلتة المباركة".
التوزيع الرباني جعل المكان محتويا ثلاثة أحواض طبيعية، لكل واحد منها نبعها الخاص، بينهما مسافة قريبة، ينزل المداني للبركة الأولى صائحا:" هذه البركة دافئة، لا هي ساخنة ولا هي باردة، ومن هنا تبدأ النوبة التي تحضر البدن كي لا يتلقى صدمة حرارية، بعد الانتقال للبركة الثانية الساخنة جدا.
يحتوي الحوض الأول على مادة " الغْرَّمْ"، وهو طينة ترابية سوداء اللون تتكون من أملاح معدنية ثرية مفيدة للجسم، بينها الكبريت، أما الحوض الساخن فهو يساعد في تعرف الجسم لدرجة حرارته العالية، ما يجعله في فورة محمومة تتيح له طرح الأدران وتليين العضلات وتحرير المسامات ومعالجة الالتهابات كالروماتيزم والحساسية المسماة عندنا الرّش وحتى الحب الجلدي والإيكزيما".
عطور آذار
يتمرغ المرتادون في البرك مثل حناكس مائية قبل أن يشرعوا في ترطيب العضلات، فيما يتناوب بعضهم على دلك أبدانهم، في حال الازدحام، أو تدليك ظهور أقرانهم، بالصوابين المبللة في الليف، ومن حضر دونها فعليه أن يلجأ للشاب عبد الحق حقاص 26 سنة، الذي يقدم خدمة بيع الشامبوان وشفرات الحلاقة والصوابين فضلا عن وجبات الجبن والبيض المسلوق، المرصوفة في طاولة تحت سلالم مقابلة.
ولأن الجميع كانوا منتعشين في استرخائهم الطويل، فقد شرع رجل ستيني تبدو عليه علامات التعلم في تقديم أسرار دقيقة للحمام ثلاثي البرك، فأشار لـ "الترا جزائر" معلقًا: "هذه المنابع شفاء بدني وروحي للناس، فالغسل يتقدم العبادة دائما. خُلق الإنسان من ماء وطين، فالغرم الذي هو مادة صلصالية سوداء تشبه الحمأ المسنون، ولذلك يداوي الإنسان السموم التي تصيب البدن بمادة تكوينه الأولى، مثلما يتحول سم الكوبرا إلى بلسم يعالج داء لدغاتها القاتلة".
وأردف: " شاهدت في طفولتي في بعض المناطق قرويين يعالجون جروح الكلاب بعصر السمك أو أي مادة يشتهيها هذا الحيوان، فيشرع الأخير في لحس موضع إصابته مفرزا مواد من لسانه تنتهي بعد وقت في تطييب الجرح، ففي الطبيعة دائما ما يجاور كل داء دواءه والعكس صحيح".
يرتاد المصابون بداء المفاصل هذه البرك خلال شهور الشتاء الباردة، وهي أهم فترة بالنسبة إليهم، فيضف " الكهل الخبير" لـ "الترا جزائر": "أفضل غسل خلال شهر مارس/آذار، ففي هذه الفترة من الربيع تتفتق الورود، وتينع الأعشاب العطرية الطبية، خاصة نبات البونافع والشدايخ وكل النبيت الحلبي، يتسلل رحيق هذه الأعشاب في الماء المكثف بالصلصال مانحا لنا مستحضرا طبيعيا، يعالج المفاصل والحساسية والعياء والتعب جراء تغلغله في المسامات، كما يعالج الالتهابات".
وأضاف: " الأمر شبيه بما نشاهده في الطب الشعبي التقليدي، فبعض الفلاحين يعالجون التهاب قوائم الأحصنة الناجمة عن الاحتكاك بالأرض بالطين الصلصالي الممزوج بالملح،كما كانوا يَجبرون كسور أرجل الدواجن بالصلصال المخلوط بالزّق خاصتها، فتبرى في فترة وجيزة وتسترد عافيتها".
ملاذ الرياضيين
يعبر المداني في خفة إلى الحوض الأخير والبارد، وهي آخر محطة، لصيانة الجسم وتنظيفه قائلا: " بعد تهيئة البدن في البركة الأولى الدافئة، ثم تغميسه في البركة الحموية الساخنة المسببة للتعرق، أنتقل إلى الحوض البارد المليء بحشائش الخز، ما يساهم في مسح الأوساخ الجلدية وتنعيم الملمس، قبل التعرض للشمس، أو للتجفيف بواسطة المنشفة".
وهذه البركة الثالثة ملاذ للرياضيين الذين اكتشفوا مؤخرا فائدة الماء البارد في الاسترجاع السريع، إذ يحدث ذلك كما يقولون تنبيها للعقل الذي يسارع إلى تسريع وتيرة الاستنهاض العضلي ومعالجة الالتهابات الناجمة عن الاجهاد أو الإصابات عن طريق افرازاته، فيقول الشاب أمين وهو إطار في المعلوماتية:" أمارس العدو كل مساء على مسافة 6 كلم ثم أنزل إلى البركة الباردة كي أسترجع اللياقة البدنية، ولست وحدي فجل الرياضيين يفعلون هذا حيث أن الماء البارد مفيد للعضلات كما هو ملاحظ عند المحترفين الذين يسترجعون اللياقة في أحواض معبأة بقطع الثلج والجليد، ويمكن بعدها الذهاب لإحدى البركتين بعد فاصل طويل بين المرحلتين".
يخرج المداني من غسله الأخير، منتعشا، لكنه يأمل في أن تبادر سلطات بلدية ودائرة الحامة، بخطط لتهيئة الطريق المتدهور وتنظيم حملات لتنظيف البقعة المباركة،من الأكياس والقناني البلاستيكية وشفرات الحلاقة المتراكمة ولو بتخصيص مكب للنفاية.
يدفع لعبد الحق ثمن لمجة بيض وجبن، قبل أن يغادر "حمام الله"، غانمًا طاقة إيجابية تسري في روحه الجديدة، بعدما استحم و شبع،بمقابل زهيد لا يتعدى 100 دينار جزائري، أما البائع الشاب صاحب الطاولة البدائية، فيقول لـ " الترا جزائر": توقفت عن الدراسة العام 2014، لكني بدأت البيع في هذه النصبة في سن مبكرة، منذ 15 عاما كاملا، و بحكم أن بيتنا قريب فقد أرتأيتُ أن أخدم المترددين على هذه البرك على مدار العام.
وختم: "تزداد وتيرة الشغل خلال الجمعة و السبت، و كل شيء على ما يرام، ففي حالات الذروة أحقق ربحًا صافيًا قدره 2000 دج في اليوم".