15-أكتوبر-2024
خزف هيمسونين

خزف هيمسونين (الصورة: الترا جزائر)

في عزّ المد السياحي الذي اجتاح الجزائر خلال سبعينيات القرن الماضي، قرّر الرئيس الراحل هواري بومدين إنشاء أربع وحدات لصناعة الفخار والخزف في مناطق شتى في البلاد، فتأسست منذ العام 1975، أربع أقطاب عمومية إنتاجية في كل من ولايتي وميلة وقالمة، ودائرتي القنطرة ومشونش في ولاية بسكرة.

مدير الوحدة لـ "الترا جزائر": في اللحظة التي توقفت فيها المطاحن والأفران وآلات الخراطة، تولدت رغبة لدى العمال بضرورة إنقاذ الوحدة من الموت

 بحلول العام 1998 تغيّر الطابع القانوني لهذه المعامل التقليدية، فصارت وحدة مشونش شركة ذات مسؤولية محدودة اشتراها العمال ليسترزقوا منها، لكن جائحة كورونا، ضربت مصنع الخزف في مقتل، فأوقفته عن النشاط تماما، مكرسة وضعا مأساويا تغذى من أزمات مالية وإدارية متراكمة، أنهت سنوات المجد التي كان فيها السياح الأجانب لا يهنئون سوى بشراء أوانيه المتقنة قبل العودة بها لبلدانهم كتذكار يخلد عطلهم الشيقة في بلد الشمس الساطعة والتمور الشهية.

مِحنةٌ وفُرصةٌ

يقول مدير الوحدة، إبراهيم مدوري، الذي استنجدت به السلطات لإعادة بعث المشروع من جديد، رغم تقاعده، لـ " الترا جزائر" مفصلا: " في اللحظة التي توقفت فيها المطاحن والأفران وآلات الخراطة، تولدت رغبة لدى العمال بضرورة إنقاذ الوحدة من الموت، لا لأسباب مادية بما أن جلهم أرباب عوائل، فحسب، بل من وحي نداء الواجب العميق، تمثل وفقا لما لمسته فيهم في الغيرة على ضياع مفخرة المنطقة، والحفاظ على صناعة تقليدية ذات بعد ثقافي وحضاري، وإحيائها من الرماد كما طائر فنيق".

ت

تطلّب النهوض من جديد عقد جلسات تحسيس للعمال الراغبين في استئناف النشاط، بضرورة كسب الرهان، بالموازاة مع تنظيم دورات لصيانة العتاد وتنظيفه وتزويده بقطع غيار مواكبة لمستجدات هذا النوع من الصناعة الفنية، ثم تنظيم طريقة ولوجستيك العمل لضمان الانطلاقة فوق قواعد صلبة، ولم يكن الأمر سهلا البتة سواء من حيث الإجراءات الإدارية ولا من حيث تحقيق النتائج المضمونة.

كانت المؤسسة على وشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة جراء فيروس كورونا، ما اضطر عدد كبير من الحرفيين للتقاعد أو والتوجه نحو نشاطات أخرى لكسب قوتهم، حتى تبدت مهمة استعادتهم كمّا لو أنها محاولة يائسة لإعادة بناء فريق كرة قدم بلاعبين معتزلين، تمتعوا بخبرات تراوحت ما بين عقدين وأربعة عقود، فتحت لهم باب النشاط في دوريات أخرى، بيد أن جلهم قرروا بدافع عميق لحب مهنة تطويع الطين وزخرفة التحف الخزفية، العودة إلى معقل موهبتهم الأولى.

ت

إلى هذا الصدد يضيف مدير الوحدة لـ "الترا جزائر" مبتسما ومداعبا: " يمكن القول إن مرحلة البيات الاضطراري جراء كورونا والتي استمرت من 1 ماي 2021 حتى 31 مارس 2023، كان فرصة لإعادة الخلق من جديد على أنقاض مرحلة فناء محتم، وكل شيء تحول للحظة تاريخية يوم 1 أفريل 2023، فكانت واقعا حقيقا رغم أنه صادف اليوم العالمي للكذب الموسوم سمكة أفريل".

حجارة بانيان

اليوم وبعد انقضاء سنة ونصف عن استئناف دورة الإنتاج، و استرجاع روح العمل، تشعر وأنت تلج الوحدة بحركة دؤوب، وروح تفاؤلية مشعة، رغم أن عدد العاملين لا يتعدى التسعة أفراد، لكنهم أكثر عزما على الدفع بمصدر رزقهم إلى الأمام، و كسب رهانهم إلى الأبد، فقبل فترة أنجزوا صفقة بيع بـ 45 مليون سنتيم، وهذا يعني في قاموس علم اجتماع العمل " دفعة نفسية متدفقة لتجديد الطاقة".

ة

 و تزداد تلك الثقة بإقبال كثيف من السياح المحليين و الأجانب الذين يحجون للمركز بغرض شراء المصنوعات أو القيام بجولات استكشافية بين ورشات للتعرف على مختلف مراحل الصناعة، وزيارة مخازن الترصيف التي تشبه مكتبة بديعة لتنظيم المشغولات.

يقول عادل كبدي، 40 سنة، الذي يشتغل منذ عشرين عاما ، ما يلي: " نجلب المادة الخام و هي الحجارة الصلصالية من منطقة بانيان، الواقعة على بعد 12 كلم، ثم نقوم بطحنها في خلاطة كبيرة على مدار أربع ساعات كاملة مخلوطة بالماء حتى تصير مادة بنية سائلة، ثم تضغط بآلات ضخ هوائية تمررها عبر سواتر تترسب فيها المواد الطينية لتخرج على شكل أسطوانات كبيرة تشبه قرص الكسرة الكبيرة، قبل أن تحشى في معجنة تشبه آلة فتل النقانق لتتشكل مثل عصيات طويلة و غليظة القطر قريبة من شكل منتوج البودا. وهذه هي المادة الطينية الأولية التي تتحول على يد الخراطين لتحف مكتملة الأشكال".

تقع ورشة الخراطة في عنبر غير بعيد عن مصلحة الأفران، لتسهل عملية نقل المشغولات الكثيرة، فيما يعكف الخراطون على تدوير وتشكيل قطع الطين في هدوء وتركيز كبيرين ومهارة فائقة، هي محصلة تأهيل عال وخبرة متراكمة اكتسبوها في كيفية استنباط الأشكال بخفة أنامل حريرية وعيون حريصة على التوافق الحركي والبصري والذهني، ويعد هؤلاء القلب النابض للوحدة ومهندسو المخبر الرئيسي لها، وهم تبعا لذلك الأعلى أجرا بمرتب 6 ملايين سنتيم شهريا.

طينٌ ونارْ

محند أو شريف، خرَّاط يواظب على هذا العمل منذ سبع سنوات كاملة، داوم خلالها على نفس الحركات التي تجسد لك عبقرية الإنسان في تخيل أشكال يصنعها من التراب والماء، الأصل الأول للخلق البشري، ولذلك يشعر المتجول بين مكتبة تلك المصنوعات المرصوفة في الرفوف بالطمأنينة القلبية والاستئناس لأصل نشأته الأولى قبل أن يتخذ كما تلك المشكلات البديعة أحسن التقويم.

 بين يديه تتحول أخلاط الطين من قطعة بلا هوية بصرية إلى منحوتة هشة وبديعة، عبر حركة الأنامل الحميمية في تصوير القطعة التي تلف بسرعة قياسية فوق صفيحتها الدوّارة، قبل أن يلينها بقطعة مربعة من بلاستيك أو خشب مرنّخة في الماء لتنفيذ انحناءات و تكويرات دقيقة في المجسم المطلوب.

ا

 هكذا تنتج هنا القناني، والصحون، والقنانش المستعملة في شرب اللبن والأطباق، والقصع الخزفية، والجرات الصغيرة والكبيرة، لكن محند وهو أيضا كاتب متخصص في الشعر الشاوي وملحن و مغن يضيف لـ"الترا جزائر" بعدًا آخر للوظيفة التي يتكفل بها. يطلق العنان لصوته للترنم بأغان شاوية من تأليفه، قبل أن يقول: " العمل الذي أقوم به له معنيان، الأول هو استرزاق طبيعي للعيش، لكنه من ناحية أخرى صيانة لهويتي وهوية مدينتي مشونش أو كما نسميها هيمسونين، كي لا تندثر هذه الصناعة المتوارثة منذ أجيال طويلة، إنها همزة وصل ثقافية وخيط روحي رفيع، يؤالف بين كسب القوت وحماية هذا التراث من الموت".

يعقب زميله في الورشة، وهو عامل قيدوم قضى أربعين عاما في هذه الوحدة صائحا:" علاوة على هذا يجب الاعتراف بأن الطعام المطهي في الطين أو المقدم فيه، هو أشهى وألذّ من المطبوخ و المقدم في الأدوات المعدنية المحلية أو المستوردة"، قبل أن يواصل تتمة عملية التحضير موضحا: " عندما نجهز التشكيلات الطينية نعرضها تحت أشعة الشمس قليلا كي تنشف بطريقة طبيعية، بعدها نطهيها في فرن تبلغ حرارته قرابة الألف درجة مئوية حتى يكون غير قابل للكسر وجاهزٍ للزخرفة النهائية، التي تُتبع بعملية لتغليف بمادة الكريستالين الزجاجية".

 

زُجاج المَايْ

يهرع شابان لنقل تلك القطع المجففة في منقلة يدوية لورشة الرسم التي يعمل بها الشاب سامي جهارة، لينصبّ بكامل كيانه في تنفيذ الرسوم التراثية المطلوبة أو لتدوين مناظر طبيعية لمختلف المناطق الجزائرية مانحا إياها هوية وطنية، فيقول لـ"الترا جزائر":" أمارس هذه المهنة منذ سنوات طويلة، فقد كانت لديّ موهبة في رسم الأشخاص و الأشكال، غير أني تعلمت تقنيات و فنيات الزخرفة هنا، عبر تربص تكويني أشرف عليه المدير السابق سي العابدي، ثم صرت متحكما في هذا الفن متفوقا فيه حتى على بعض الأساتذة".

إن الرسم على المشغولات المطهية المسماة " البيسكوي" الشبيهة بلون البسكويت، يتطلب مرحلة قبل نهائية من خلال تعويمها في آنية كبيرة تحتوي مادة سائلة رمادية اللون، ذلك ما يقوم به الشاب هيثم سي العابدي، 19 سنة، وهو يرفعها بملقط معدني قبل أن يغمسها في المحلول السائل، قبل أن يعومها في كل الاتجاهات، ثم يضعها جانبا كي تجف.

ج

يشرح لـ" الترا جزائر" عمله معقبا: " المادة السائلة تسمى " الماي" وهي مصنوعة من الكريستالين الزجاجي. تساهم هذه الصبغة في تثبيت الرسوم وصيانة التحف المصنوعة من الأوساخ أو التلطخ. قد تبدو لك تلك الرسوم مخفية جرّاء الطلاء الكثيف، بيد أن هذا الدهن سيختفي بعد عملية الطهي الثانية في الفرن، فاسحا المجال للرسوم كي تبرز من جديد واضحة لا شيّة فيها تسر الناظرين، عبر الطبقة المغلفة بالمادة الصقيلة واللامعة. وهي على هذا المنوال تتخذ شكلها النهائي الجاهز للتسويق".

التصدير إلى فرنسا

في مدخل مصنع مشونش للفخار والخزف متجر يعرض مصنوعاته الخزفية متعددة الأشكال والألوان في بهرجة ضوئية مبهرة ولافتة للأعين، لذا لا يخلو المكان من الزوّار الراغبين في الشراء، والعودة بغنائم تذكارية جميلة تصلح للديكور المنزلي والاستعمال المطبخي على حد سواء.

 وحقا، يتهافت السياح الذين يقطعون المسار السياحي الطبيعي بين الصحراء والتل، الممتد من وادي سوف وبسكرة وباتنة وقسنطينة، على مشونش كمحطة ضرورية لزيارة وادي هيمسونين بأخاديده الخرافية وواحات النخيل وبساتين التين والرمان ومتحف العقيد سي الحواس، أصيل البلدة، ولاقتناء تحف الصناعة التقليدية الخزفية ذات الشهرة الوطنية والعالمية، وهي بأسعار معقولة حيث تتراوح أسعار بعض النماذج المطلوبة بكثرة مثل الصحون والأكواب والجرار بين 25 دينار جزائري إلى 50 دينار جزائري حتى سعر 150 دينار جزائري.

ب

لا يبدو أن أحلام عمال تمكنوا بفضل إرادتهم الصلبة من إعادة دوران العجلة المتوقفة، ستترجل في هذه المحطة، فهم يعوّلون على تطور معدلات الإقبال السياحي المتزايد على الجزائر كوجهة متنامية، بخاصة بعد تسهيل إجراءات تأشيرة التسوية، في السنين الأخيرة، كي تزدهر تجارتهم.

وأكبر دليل على ذلك أن مؤسسات أجنبية بدأت تبدي الرغبة في استيراد مصنوعات خزف مشونش، حيث يختم إبراهيم مدوري حديثه متفائلا: " طبعا يجب أن نظل متفائلين، فهذه المؤسسة مدينة بحياتها لمقاومة هؤلاء العمال الذين قرروا قبل سنتين وضع قطار المصنع فوق سكته الصحيحة، ثم ها نحن نعبر في ظرف وجيز و بالسرعة القصوى من خيار الغلق النهائي، إلى فرصة ذهبية تاريخية تتمثل في تصدير شحنة منتجات خزفية نحو فرنسا بطلب من متعاملين يرغبون في توريدها إلى قلب أوروبا، وطبعا نحن بصدد تسوية الإجراءات القانونية والإدارية لإتمام الصفقة التي ستشرع أحلامنا على مصراعيها، والعبور لمرحلة جديدة عبر تحسين أجور الموظفين و تنمية القدرات وتجويد وتنويع سلة منتجاتنا المطلوبة".