عندما تداعب الأنامل آلة موسيقية، تصدح معها إبداعات الإنسان، ولكن أن تداعب الآلة الصحراء الشاسعة فهي تستنطق الفراغ وتستجدي جماله الصامت، وتنقل الإنسان والروح معًا من حالة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر دون الحاجة إلى تذكرة سفر. هكذا هو الجنوب الجزائري من قلب صحرائه المترامية، وهو الذي خاض مؤخرًا تجربة احتضان مهرجان السيمفونية العالمية بمشاركة عشرات الفنانين من شتى الدول لتصنع ديكورًا مختلفًا على مسرح تداعبه الرمال.
لم يستفد الجنوب الجزائري إلا من عدد قليل من المنشآت السياحية، مما عطل عجلة السياحة الصحراوية في البلد وحال دون استغلال نعمة الطبيعة
من العاصمة الجزائرية إلى مدينة "ايليزي" تقدر المسافة الفاصلة بـ2000 كيلومترًا، مسافة تتغير فيها التضاريس وتختلف المشاهد من شواطئ البحر وخضرة الطبيعة في شمال الجزائر إلى سحرها المغلف برمال ذهبية كلما توغلنا في أعماق الجنوب. "أن تقطع المسافة برًا فذلك ضرب من ضروب الجنون، لكنه بالنسبة للمولعين بالسفر واكتشاف الجديد عبارة عن مغامرة جميلة تبقى في الذهن والذاكرة"، يقول طالب علم الآثار من جامعة تيزي وزو، محند قاسي، لـ"الترا صوت"، مضيفًا إنها "هذه الصحراء ثروة لكنها ضائعة".
عندما تسأل محند عن وجهته يرد بثقة: "نحن ذاهبون إلى الصحراء من أجل اتباع رغبتنا في اكتشاف شيء مجهول وتلمس مكان يمنحنا الإجازة الأكاديمية، وفي نفس الوقت يفتح الشهية أمامنا لاكتشاف أسرار الصحراء الغائبة عن مخيال الجزائريين". وتضيف سامية، الطالبة الجامعية في تخصص علم الآثار، لـ"الترا صوت" أن "الجزائريين يعرفون فقط أسماء بعض المحافظات الصحراوية وخاصة ثروتها المتمثلة في الذهب الأسود أو البترول وماعدا ذلك لا يعرفون شيئًا".
يتحدث محند وسامية وبقية الفريق العلمي الشاب المختص في الآثار بمرارة، فالصحراء قطعة مهمة من الجزائر بإمكانها أن تضم وجهات سياحية عديدة، يمكن تصنيفها في الدرجة الأولى، كما بإمكانها استقطاب الملايين من سياح العالم، وهو ما يعني أن البحث يجب أن يتوسع في الصحراء لفتح ملفاتها واستكشاف ميزاتها. يقول عنها حسن أغ طاهر، وهو من ساكنة مدينة ايليزي الصحراوية، "هي مساحات شاسعة تستحق الزيارة، تسمى بالساحرة لكنها اليوم جنة خالية". وتعتبر محافظة "ايليزي" أهم منطقة في الصحراء الجزائرية لأنها تحوي "الحديقة الوطنية للطاسيلي"، المسجلة في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو".
عن الجنوب الجزائري، يقول آغ أقنيني لـ"الترا صوت": "أغلب مناطق الصحراء لا تحتاج إلا تأهيلًا تنمويًا لتشييد مجمعات سياحية تستغل الثروة الطبيعية التي تتمتع بها المنطقة، حيث تتمازج الجبال والرمال وأشكال صنعها التحول الجيولوجي للمنطقة على مدار القرون"، لكن لم يستفد الجنوب الجزائري إلا من عدد قليل من المنشآت السياحية التي تعد على الأصابع، مما عطل عجلة السياحة الصحراوية في البلد وحال دون استغلال نعمة الطبيعة وجعلها وجهة للملايين من السياح، وكان يمكن بعد "نعمة البترول" أن تلعب السياحة دورًا بارزًا في تموين خزينة الدولة.
حيرة وتأسف، هي كل ما يظهر على ملامح الكثيرين ممن استجوبهم "الترا صوت"، فعندما تحدثهم عن "جبال الطاسيلي" الشامخة والمغرية وعن الصحراء الجزائرية، تجدهم يعرفونها من خلال بعض الصور أو الفيديوهات أو البطاقات الخاصة بالمنطقة التي تباع في الأكشاك، فيما تمكن القليل منهم من زيارتها وهم يتمنون العودة إليها خصوصًا في فصلي الخريف والشتاء أين هدوء الطبيعة ومداعبة الشمس اللطيفة لزوارها. هكذا ورغم شساعتها وإمكاناتها الطبيعية، تظل الصحراء الجزائرية غير مستغلة مقارنة بما تتطلبه عجلة السياحة ومقارنة بجمال المكان.