04-أغسطس-2022
نساء يستعرضن الحلي القبائلي (فيسبوك/الترا جزائر)

نساء يستعرضن الحلي القبائلي (فيسبوك/الترا جزائر)

تعيش قرية آث يني الواقعة بأعالي جبال جرجرة بولاية تيزي وزو على وقع الاحتفال بعيد الفضة السنوي، إذ تعود قصة صناعة المعدن الأبيض في هذه المنطقة إلى عصور بعيدة لها علاقة بالتاريخ والمقاومة، حيث عُرف أهالي المنطقة ببراعتهم في صناعة الحلي والنقود والأسلحة، فتقرب منهم حكام إيالة الجزائر من الأتراك لتجنّب الصدام معهم.

من القصص المتداولة بين أهالى المنطقة أن سكان قرية تاوريث ميمون اشتهروا بصناعة النقود الفضية المزيفة وتداولها في الأسواق خلال الفترة العثمانية فتقرب منهم حكام إيالة الجزائر من الأتراك وتصالحوا معهم واستفادوا من خبرتهم

مازالت قرية آث يني اليوم تشتهر بصناعة حلي الفضة التقليدية في الجزائر، ومازال صنّاعها يبرعون في نقش التاريخ ورسم الذاكرة على أساور وأقراط نسائها، ومازال السياح والعرسان الجدد يقصدونها لاقتناء حاجياتهم من الحلي لأفراحهم ومناسباتهم، إذ تحتفي اليوم "عاصمة الفضة" بمهرجان الحلي القبائلي في طبعته الـ 16 عشر، من يوم 28 حزيران/جوان إلى غاية السادس من آب/أوت الجاري.

عند الحديث عن حلي الفضة في قرية آث يني وما جاورها من قرى، فهي أبعد من مهنة أو صناعة، بل هي جزء من تاريخ المنطقة تحكي تفاصيله مدائح العجائز وكبار السن في العائلات، إذ تعتبر تعتبر تراثًا  تقتخر وتتميز به المنطقة، هنا، وخلال جولة "التر جزائر" وقفنا على اعتزاز روحي لأبناء المنطقة سَنده مورث ثقافي يحمل معاني الروابط الروحية والتواصل مع الأجيال، وصناعةً لها معاني وأبعاد إنسانية وجمالية وإبداعية جعل من قرية صغيرة مترامية في أعالي قمة جرجرة واحدة من الأقطاب السياحية التي يزورها الوافدون من كافة أنحاء الوطن.

حلي قبائلي

بداية القصة 

في سياق الموضوع، تتداول حكايات شفوية عن تاريخ نشأت حرفة صياغة الفضة في قرية آث يني؛ من بين تلك الروايات المتداولة والمشهورة، هي انتقال عائلة من قلعة آث عباس الواقعة في مدينة بجاية إلى قرية تاوريث ميمون (إحدى القرى السبعة التي تشكلها البلدية) قصد الاستقرار، وتصاهرت العائلة البجاوية مع عائلة من آث الأربعاء، وأفضى هذا الزواج والارتباط إلى تَتَلمُذ واقتباس حرفة صناعة الحلى القبائلي من طرف كافة نساء ورجال قرية آث يني.

تداولت أنامل أبناء القرية في تطوير وصناعة الحلي والمجوهرات وأبدعت في الصناعة، وامتدت الصناعة إلى مهن تقليدية ويدوية أخرى، كصناعة النقود الفضية والمعدنية وفن الحدادة والتلحيم وصناعة الأسلحة ونجارة الخشب، وذاع صيتهم في تلك الفترة وأصبحوا مقصدًا للقرى المجاورة في هذه الصناعات.

حلي قبائلي

ويروي أهل القرية أن أهالي قرية تاوريث ميمون اشتهروا بصناعة النقود المعدنية المزيفة، وتداولها في الأسواق خلال الفترة العثمانية قصد الإضرار باقتصاد إيالة الجزائر. هذا التميز والذكاء جعل من حكام إيالة الجزائر من الأتراك التقرب من أهالي القرية، ومحاولة التصالح والاستفادة من خبرتهم وصناعتهم التقليدية والحرفية، وكعرفان وعربون صداقة معهم، شيّد مسجد في قرية تاوريث ميمون، يحمل نفس مواصفات وفن عمارة مساجد وجوامع مدينة القصبة أو المدن الكبرى الحضرية.

 ويعد مسجد قرية تاوريث ميمون من الجوامع النادرة التي بناها الأتراك في المنطقة، نظرًا إلى وجود حساسية ونزاعات بين الاتراك وأهالي مناطق القبائل آنذاك، فَقد شكل تَمكن أهالي قرية آث يني من الصناعات التقليدية مناسبة وفرصة للتبادل التجاري مع مختلف المناطق الشمالية وإدارة إيالة الجزائر عبر المقايضة أو تبادل السلع والبضائع.

لماذا الفضة وليس الذهب؟

قد يتساءل كثيرون لماذا تفنن أهالي منطقة القبائل في صناعة الحلي التقليدية من مادة الفضة وليس معدن الذهب؟ هنا، تحدثنا كنزة وهي حرفية أربعينية، ترتدي الزي القبائلي، أن المراءة القبائلية المنحدرة من المناطق الريفية تفضل الفضة على الذهب لاعتبارات عديدة، موضّحة أن جذور هذا الزينة تعود إلى الأوضاع الاقتصادية والمادية التي يعيشها أهل الريف والقرى، حيث أن الذهب كان دائمًا نادرًا مرتفع الثمن مقارنة بمعدن الفضة.

ويَتردد في ذهنية واعتقاد الكثير من الأهالي أن اللون الأبيض أو الفضي يحمل رمزية الشفافية والنقاء وصفاء الوجه والسريرة، في حين أن الذهب حتى ولو جلب الانتباه فإن اللون الأصفر عادة ما يوحي إلى المرض والوجوه الشاحب أو "المَصفار" بالعامية.

حلي قبائلي

ميزة الحلي القبائلي

ويتميز الحلي القبائلي التقليدي على الحلي التقليدي الأوراسي أو الشاوي والقسنطيني، أنه يُلَون في صناعته وأشكاله، ويُصبغُ ويُزوّقُ بالألوان كالأخضر الذي يرمز إلى فصل الربيع، ولون الأصفر الذي يوحي إلى الشمس، ولون الأزرق عنوان صفاء السماء وزرقة البحر، ويتأثث الحي القبائلي بالأحجار الكريمة من المرجان الحمراء، سواء على شكل حجرة أو نبتة بحسب العقد أو القرط أو الأختام أو الخلخال أو المشبك، في حين الحلي التقليدي الاوراسي أو القسنطيني غالبا ما يحافظ على اللون الأبيض الصافي أو الفضي الخالص.

في سياق الموضوع، تتمسك المرأة القبائلية بالحلي التقليدي، ويعود ذلك إلى عادات احتفالية  تعبّر عن تمسكها بالأناقة والذوق السليم والرفاهية والتركيز على القيمة الجسدية،رغم أنها تنحدر من الوسط الريفي والقروي. هذا التشبث بالجمال وأدواته التزينية يقطع الصورة النمطية عن المرأة الريفية على أنها متوحشّة ومتخلفة وغير متعلمة ولا ذوق لها.

وعكس التفكير النمطي السائد عن المرأة الريفية، أظهر تمسك المرأة القبائلية والشاوية وحتى نساء الطوارڨ بفكرة أن لباس الزينة هو الجانب الحقيقي والواقعي لمفهوم الأنوثة غير الحضرية أو المتمدنة.

حلي قبائلي

الربوة غير المنسية

عند مدخل قرية تاوريث ميمون وهي إحدى قرى آث يني، يقف تمثال الكاتب والروائي مولود معمري، شامخًا وسط قمم جبال جرجرة، وينحدر كل من الروائي مولود معمري والفيلسوف محمد أركون من قرية تاوريث ميمون، التي تقع على ارتفاع 2300 متر على مستوى سطح البحر، وتقع على مرتفعات تعانق فيه السحاب وتبهر الزائر إليها، ومن خلال القمة تهمين الأنظار على مجموعة القرى المترامية حولها، وتبصر واحدة من أجمال المناظر بقمم جبال جرجرة الشاهقة.

تعمل جمعيات ثقافة مهتمة بالتراث على إدراج صناعة المسوغات الفضية في منطقة آث يني ضمن التراث العالمي 

إلى هنا، تعمل جمعيات مهتمة بالحلي التقلي وحرفي المنطقة والمهتمين بالشأن الثقافي على تصنيف الحلي والمجوهرات التقليدي المصنوعة بالفضة ضمن التراث العالمي المعترف به من طرف اليونسكو.