من شروق الشمس إلى غروبها، تصعد مواكب الزائرين نحو قمّة الجبل؛ يسلكون طريقًا ضيقة كان يتخذها الرعاة مسارًا لمواشيهم. تنشد النسوة في طريقهن نحو القمة تراتيل الفرح، إنها رحلة سنوية نحو "أزرو نطهور"، يأتي الناس إلى هناك في أول جمعة من شهر أوت/أغسطس، لتتواصل مراسيم الفرح كل جمعة من نفس الشهر، إنها قصة البحث عن البركة التي تحمي جبال منطقة القبائل.
في أول جمعة من شهر أوت/أغسطس، تبدأ عادة "أزرو نطهور"، الرحلة السنوية التي اعتاد سكان منطقة القبائل على إحيائها كل عام منذ قرون
بين الأسطورة والحقيقة
استمرت عادة "أزرو نطهور" لقرون، وحافظ عليها سكان منطقة القبائل ضمن موروثهم الثقافي، وانتقلت العادة من الأجداد للآباء فالأبناء، لذلك دأبت ثلاثة قرى من مدينة "إفرحونن" بتيزي وزو على تنظيم هذه العادة.
ومع اقتراب شهر أوت/أغسطس تلتقي لجان القرى لتحدّد طريقة إحياء المناسبة، ثم يبدأ التحضير لها بجمع التبرعات من سكان القرى والمتطوعين من أجل شراء الأضاحي وغيرها من المستلزمات، وذلك بغرض إكرام الضيوف بطبق من الكسكسي باللحم، فلقصة هذه العادة ارتباط وثيق بالكسكسي، هذا الطبق المتجذر في عادات المنطقة، فهو طبق الفرح والقرح.
تعددت الروايات التي تداولت على ألسنة أهل القرى بخصوص إحياء هذه العادة القديمة، فهناك من يقول إنه قبل قرون خلت كان أحد الزهّاد يقصد المكان المرتفع في القرية، ليتعبد في خلوة، إلى أن وافته المنية ذات يوم، مباشرة بعد أداء صلاة الظهر، ومنه أخذ المكان تسميته، فصار القرويون والرعاة الذين كانوا على علاقة به يقصدون المكان ليتذكروا خصاله ويستجدوا شيئًا من بركاته تقربًا لله.
فيما تذهب رواية أخرى بربط الأمر بطبق الكسكسي، حيث كانت نساء القرية يحضرنه للرجال الذين تعودوا على اقتياد مواشيهم إلى ذلك المكان المعروف باخضراره الدائم حتى في أيام القحط والجفاف، وبينما كنّ يمارسن طقوس تحضير الكسكسي، سقط منهن الصحن وهوى من أعلى الصخرة، وحين وصل لسفح الجبل لم ينكسر الصحن، ولم ينسكب منه الكسكسي، وكأن يدًا حملته ووضعته على الأرض.
اعتقدت النسوة أن بركة ما حمت طبق الكسكسي، ولما قصصن ذلك على أهل القرية قاموا ببناء ضريح هناك لتدوم البركة على أهل القرى.
هاتان الروايتان تثبتان ذلك المزيج المتناغم بين الإسلام المغاربي الذي يولي أهمية بالغة للأولياء الصالحين من جهة، ومن جهة أخرى تجسيد للثقافة الأمازيغية التي طالما غرفت معتقداتها من روافد الميثولوجيا القديمة.
بركة الجبل
يقصد المنطقة زوارٌ من جميع أنحاء الوطن وحتى من خارجه، فإضافة لكون المكان مزارًا روحيًا "مباركًا"، هو أيضًا منطقة سياحية تقع على ارتفاع أزيد من 1880 مترًا عن سطح البحر، تمنح للواقف هناك مشهدًا بانوراميًا لقرى منطقة القبائل المتناثرة على سفوح جبال جرجرة.
يذهب الناس إلى هناك كل عام، يصلّون ويبتهلون ويعيشون فسحة روحانية. يشعلون الشموع وينشدون الأغاني القديمة التي يُمدح فيها النبي والأولياء الصالحون، ويتضرعون، ويطلبون من الله بجاه بركة ذلك المكان، أن يشفي مريضًا أو يعيد غريبًا تاهت خطواته في الجانب الآخر من البحر المتوسط.
ينصّب سكان القرية المكلّفة بتنظيم الوعدة، خيمة أعلى الجبل، يجمعون فيها تبرعات السكان والزوار، كما يقوم شباب وأعيان القرية بتوزيع طبق الكسكسي مع اللحم على الجميع، مصحوبًا بماء بارد جيء به من عيون المياه العذبة المتدفقة بجوار المزار، كما أن أعيان القرية لا يرفضون الهدايا المالية والعينية التي يقدمها الزوار ليساعدوا بها المنظمين، ليقوم إمام حاضر في عين المكان بالدعاء للمتصدّق بالخير والبركة والرفاه.
العطاء
يسهر سكان القرى الثلاثة: زوبقة، وأيت عديلة، وأيت عتسو، على تنظيم وعدة أزرو نطهور، إذ لا تقدم السلطات المحلية أي دعم. تقوم لجان القرى بتحضير قائمة السكان المكلّفين بمهمة التحضير والتنظيم، حيث تحضّر القوائم شهرًا قبل الحدث، ومن السهل التعرف عليهم إذ تسلّمهم لجنة القرية سترات خضراء.
يشرف كل شخص على مهمة محدّدة كتنظيف المباني أو الطهي أو استقبال الزوار وإرشادهم وتوفير النقل وتوفير المياه العذبة. تتم مراجعة كل التفاصيل والتخطيط لها، ولا يترك أي مجال للصدفة والارتجال.
كما يقوم شباب القرى بتصميم ملصقات للحدث كعملية اشهارية، ليبلغ الخبر مسامع الجميع في الجزائر وديار الغربة، فهذه التظاهرة التي تنظّم صيفا غالبا ما كانت فرصة لأبناء المغتربين لاكتشاف تراثهم والتصالح مع عادات وتقاليد بلدهم.
يتجدد الحدث كل نهاية أسبوع من شهر أوت/أغسطس. لقد كان المكان قديمًا منطلقًا لعلاقات زواج، حيث تتعارف العائلات فيما بينها، وتختار ربّات البيوت حسناوات القرية غير المتزوجات في رحلة البحث عن زوجة لأحد الأبناء.
يتجدد حدث أزرو نطهور نهاية كل أسبوع من أوت/أغسطس، وفي حينه يقصد المنطقة زوار من كل مكان، لعيش التجربة، وللسياحة
يتقاسم ثلاثة أو أربعة أشخاص لا يتعارفون فيما بينهم طبق كسكسي تحت ظلال أشجار الأرز التي يزخر بها المكان، وعلى الجانب يصطف بائعو الوجبات السريعة والهدايا والتذكارات والأدوات الفخارية والمصوّرون. يخلق الجميع صخبًا جميلًا لقرابة شهر، قبل أن يعود الهدوء للصخرة المباركة ويعود إليها الرعاة وأسراب النسور.