مع أولى ساعات الصباح، يُشكّل الأطفال صفًّا ويسيرون في الدروب الضيّقة المؤدّية لأحد الحقول أو البطاح والمساحات الخضراء، بينما تسير النسوة خلفهم مباشرة. يقترب الجمع من الحقل وتتعالى الأهازيج والزغاريد، وتنسجم حناجر النسوة والأطفال كفرقة موسيقية محترفة، في أداء تراتيل قدوم الربيع وتوديع فصل الشتاء، يستبشر أهل القرى بقدوم الربيع. فالربيع أو "ثافسوث" يعني باللغة الأمازيغية "الإوراق"، فيستقبله الفلاّحون الذي يسمّون شهر آذار/مارس بـ "مغرس" فهو شهر الغرس بحسبهم، فينشدون "لقد أتى الربيع، سنُزهر مثل الزهور، ونكبر مثل السحاب".
ترسّخت في المخيال الجمعي لمنطقة القبائل عادة قديمة، لازال أهلها يحيونها كل موسم، وهي عادة "أماقار ن تفسوث"،
عادة جزائرية قديمة..
يعتبر الجزائريون قدوم الربيع فأل خير على الأرض وأهلها، فهو يضع حدًّا لنهاية قساوة الشتاء وكآبته، كما أنّه يخلّصهم من "فورار" والتي تعني شبّاط/فيفري، حيث تصنّفه الحكايات الشعبية أنّه شهر ناقص في كل شيء، فحتّى أنّ الفلاحين ورغم توقهم للمطر إلّا أنهم لا يستبشرون بمطر الشهر الثاني من السنة، وينتظرون قدوم آذار/مارس لتغيّر الطبيعة جلدها، ويخرجون لبساتينهم للغرس والزراعة. هنا تُزهر الأشجار وتشعر البذور التي اختبأت في باطن الأرض خوفًا من الشتاء، بحرارة الشمس فتخرج وتمنح لنفسها حياة جديدة.
اقرأ/ي أيضًا: ظاهرة انتشار الثعابين في منطقة القبائل.. بين التأويلات والتحذيرات
من المعلوم أنّ الثقافة الشعبية الجزائرية عمومًا والأمازيغية خصوصًا، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأرض والفلاحة والزراعة، وغالبًا ما كانت الكثير من الأعياد والطقوس، مرتبطة بالفصول أو الكائنات، ففي القديم لم يكن للإنسان شيء غير الأرض، وكان شديد الولاء لها وغزير العلم بها، يبادلها العطاء ويلازمها بطقوس الوفاء في كل سانحة، في هذا السياق، يرى جرّود كمال أستاذ علم الاجتماع بجامعة البويرة، أنّه "حين يخرج الناس لاستقبال الربيع، ولاستقبال فصول أخرى في مناطق جزائرية ، ونرى الأطفال يتدحرجون في العشب، فيأخذون شيئًا من روائح الأرض. إنّ هذا الفعل شبيه إلى حدّ ما بالنحلة التي تبحث عن اللقاح في الزهور".
ويوّضح جرّود، أنّه "مع التطوّر الحاصل، والذي بتنا مجبرين على الانخراط فيه، إلّا أن الحاجة إلى التواصل الجسدي مع الطبيعة هو بلا شكّ تبقى نزعة غريزية، ففي حالة عيد الربيع في الجزائر مثلًا، فإنّ لفة الحشائش المليئة بندى الصباح، التي تقطفها ربّة المنزل لتحضير طبق "أذرييس" الخاصّ بعيد الربيع، توحي بامتلاك العائلات لبنات في سن الزّواج، لقد كانت تلك الاحتفاليات في القرى والمداشر فرصة لقاء للعائلات، وتكوين علاقات النسب والمصاهرة ".
ويختم محدّث "الترا جزائر" كلامه قائلًا: "كان هذا في عالم الأمس، ولكن اليوم مع قيم الحداثة الجديدة، لم يعد الحبّ يحمل الرموز والألغاز نفسها التي كان يحملها من قبل، لقد فقدت الحياة سحرها، لهذا يتشبت الإنسان بتقاليده، هذا ما نسمّيه الحنين".
كسكس الغلال السبعة
ترسّخت في المخيال الجمعي لمنطقة القبائل عادة قديمة، لازال أهلها يحيونها كل موسم، وهي عادة "أماقار نتفسوث"، والتي تعني استقبال الربيع، حيث تحيي القرى هذه العادة بطرق مختلفة، لكن يبقى القاسم المشترك فيها، أنّه على العائلة أن ترحّب الربيع بتحضير "كسكس الحشائش السبع" أو "سكسو ن سبعة إسوفار"، أو "أذرييس" في مناطق أخرى، حيث تختار النسوة بعناية سبعة أنواع من الحشائش التي تجود بها الأرض، كي يحضّرن أحد أجود أنواع الكسكس وأفضلها.
تشبه طقوس عشاء استقبال الربيع عشاء ينّاير، إذ تفضّل بعض العائلات في منطقة القبائل التضحية بديك بلدي ليزيّن مائدة العشاء، بينما تضع ربّة البيت حبّات بيض مسلوق فوق كسكس "أذريس". مع العلم أنّ الكسكس تم تحضيره بالبخار بعد مزجه مع النباتات السبعة التي تم جمعها من الطبيعة. في بعض المناطق يطلق على الطبق اسم "أمقفول". ولأنّ الشتاء وأيّامه القاسية ذهبت، تعمد النسوة إلى مخزونها من الفواكه والغلال المجفّفة لتمنحها لأهل بيتها ليتناولوها، بعد أن كانت تخفيها عنهم كونها مؤونة الشتاء.
في قسنطينة شرقي البلاد، فتبدأ الاحتفالات بالربيع بعد الانتهاء من صوم 10 أيّام
لا يقتصر الاحتفال بعيد الربيع على منطقة القبائل فقط، بل هو عيد جزائري بامتياز، حيث تعيش مدن باتنة وسطيف وتلمسان وبني ميزاب ومدّن أخرى، مظاهر احتفالية في الفترة من 28 شبّاط/فيفري إلى غاية منتصف شهر آذار/مارس، حيث تُقام تظاهرات ثقافية وتجارية، ويعرض الفلاحون غلالهم وثمارهم، وتصدر رائحة المأكولات التقليدية "لمبرجة" و"البغرير" و"الرفيس" من المنازل. أمّا في قسنطينة شرقي البلاد، فتبدأ الاحتفالات بالربيع بعد الانتهاء من صوم 10 أيّام تسمى "نشرة"، حيث تتوجّه نساء المدينة القديمة إلى مقام سيدي محمد لغراب. قد تختلف الطقوس لكن الهدف من ورائها واحد، وهو الاستبشار بقدوم فصل الربيع.