24-مايو-2021

في تجمع بالجزائر ضد العدوان الإسرائيلي على غزّة (تصوير: بشير رمزي/الأناضول)

يرى الجزائري نفسه دعامةً غير قابلةٍ للانفصال عن بُنيان الذّاكرة الجماعية الفلسطينية، تلك الذاكرة الجريحة التي بقي الفلسطينيون خلالها وفي قلبها، في الأرض المغتصبة أو في الشتات، محتفظين بمفتاح البيت وآمال النصر، تمامًا مثلما يحتفظ المساندون على جموعهم في الجزائر بمفاتيح المآزرة التي لم تخبو يوما تحت أي ظرف كان.

العربي رمضاني: فلسطين بالنسبة للإنسان الجزائري امتداد لثنائية شكلت حيزًا مهمًا في تاريخه الحديث، الاستعمار بكل أدواته الوحشية، والحرية كمطلب رئيس لطرد المُحتل وبناء دولة الإنسان والكرامة

من الطبيعي جدًا مثلاً، والأمثلةُ في كلِّ ربوع الوطن وخارجه عديدة، أن يقف اللاّعب الجزائريّ رياض محرز في قلب ملعب انجليزي يوم التتويج بالبطولة، ليحمل علم فلسطين دونما تردد، بابتسامة واثقة هادئة معتادة، وكأنما يحمل فلسطين كلها بين ذراعيه، فينكشف للعالم وجه المأساة التي يحاول الكيان الصهيوني تزيينها عبثًا، ويدعو العالم بذلك العلم إلى رؤية هذا المغتصب على حقيقته، وقد انتصر حقًا في ذلك حينما أخفق الساسة والمتشدقون بالقضية.

قد يرى البعض هذا حدثًا جللًا، في حين يراه الجزائري ردة فعل عفوية وضرورية، لأنّ القضيّة الفلسطينية وأحداثها، كما تجري على الأرض الفلسطينية، تدور أحداثها وانتفاضاتها وأفراحها ومآسيها أيضًا في قلب وروح كل جزائري يرى أن الحرّية والكرامة حق لكل فلسطيني، وأن تلك الأرض، أرض عرضٍ عربي، وشمال أفريقي وعالميّ، أرضٌ وعَرْضٌ للبشر أجمعين بكل انتماءاتهم ورؤاهمعرض الإنسان الذي يؤمن حقًا بحق العودة وولَمِّ الشتات لكل حرّ وصاحب مفتاح وبيت وشبر في فلسطين.

 منذ بداية الأحداث الأخيرة التي هزّت القدس وانتقلت إلى أراضي فلسطينيي 48، ليتفجر العدوان على غزة، وقف

 

في كلّ مرة يلجأ فيها الاحتلال إلى ارتكاب المذابح زدكّ المباني وقتل المدنيين وقصف الأطفال والنساء والعزّل، مثلما يحدث اليوم بعد الانتصارات التي حقّقتها المقاومة الفلسطينية في طوفان الأقصى، يقف أغلب المثقفين الجزائريين عند باب الترقب حاملين آمالهم في أيديهم، ودعوات المقاومة والصمود في يد أخرى، هم الآن لا يؤمنون - أكثر بكثير من السابق- بمفاوضاتٍ ومهادناتٍ مع عدو لا يفرق بين الطفل والشاب والشيخ في المرات العديدة التي قصف فيها سكان غزة.

كما أن الجيل الجديد من المثقفين المُصَاحَبِ بمباركة جيلٍ سابق ما يزال يؤمن بالقضية وجدواها منذ القرن الماضي، رفقة الكثير من أجيال يافعة من الفلسطينيين والعرب ونسبة لا بأس بها من الأجانب في العالم، قد أثبتوا جدًا أنهم واعون جدًا بضرورة وجدوى النضال في الزمن الحالي حيث لا يمكن إخفاء ذلك الإجرام طويلًا في زمن مواقع التواصل التي خرجت بالقضية نحو العالم ولم يعد ينكرها سوى من عمي عن الحق.

فما الذي يقوله المثقف الجزائري عن فلسطين وعن القضية التي تؤرق العالم وتكشف عورة احتلال لم يعد قادرًا على مخادعته أكثر؟

القضية البوصلة

يقول الكاتب العربي رمضاني في حديث لـ لترا جزائر"، أن فلسطين بالنسبة للإنسان الجزائري امتداد لثنائية شكلت حيزًا مهمًا في تاريخه الحديث، الإستعمار بكل أدواته الوحشية، والحرية كمطلب رئيس لطرد المُحتلّ وبناء دولة الإنسان والكرامة.

ويصرّ الكاتب على أن الجزائري ينظر إلى فلسطين بوجع خاص تعزّزه تجربة مثقلة بالآلام، وبعيدًا عن الإنتماء النمطي المعروف، نظرة العيش تحت قهر المُستعمر، مشاريعه الاستيطانية وأساليبه العنصرية في تجذير فروقات متعالية بين المُستعمِر والمُستعمر والانحياز الأعمى لِكبار العالم لآلة القتل والترويع.

في ذات السياق، يؤكّد العربي رمضاني، انحياز الجزائري للنضال الفلسطيني باعتباره حقا وجوديا في الحرية، بعيدًا عن استدعاء مقولات الإنتماء بتفرعاتها العرقية والدينية والمشترك الروحي العميق بين فلسطين والجزائر، كون ثورة التحرير الجزائرية قد انطلقت من تصور تحرري كوني، تجاوز حسبه الهويات الفرعية واتجه صوب العالم واستقطب أنصارا من كافة أنحاء المعمورة، وهذا ما انتبه له باكرًا رموز الثورة الفلسطينية" الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".

يشدّد العربي رمضاني على كون الحالة الثورية الفلسطينية في وجدانه كجزائري، بوصلة أخلاقية وإنسانية لتثبيت موقف ينحاز تمامًا لحقّ الفلسطينيين في طرد الصهاينة واستعادة وطنهم والعيش بحرية.

نافذتنا نحو السماء

يؤكّد الكاتب محمد قسط في تصريحه لنا، على الوقوف مع الانسان الفلسطيني الآن وغدًا، لأن من لا يفعل ذلك، فهو يمحو انسانيته قبل معتقده.

ويؤكّد محمد قسط على أن القضيّة الفلسطينية أمرٌ شخصي جدًا، وأنه لا يكاد يشفى بصفته كاتبًا، وإنسانًا بالدرجة الأولى من الانتماء إلى ذلك الجرح الفلسطيني، فما يحدث هناك حسبه، يعد بمثابة اختبار قاس لضمير العالم، ولضميره شخصيًا.

يصرّ المتحدث على أن القدس هي النافذة الوحيدة التي ننظر منها نحو السماء، وكجزائري، يعتبر النفس الفلسطيني جزءًا من المزاج العام، ورد فعل في السلوك اليومي.

إن لفظ المقاومة حسب قسط، مفردة أصيلة في لغة الشارع، وهو كجزائري ينتصر دوما للفلسطيني أينما كان وحيثما ما حلّ، كما أن تغليب التوجه الأيديولوجي نحو ما حدث ويحدث دوما في فلسطين، يعد أخبث أنواع التطبيع.

 أما عن الصراع الفلسطيني الصهيوني، فقد أكد الكاتب أنه لا حلّ على الأرض إلا بالقوة، لا حل أقوى وأفضل من حمل السلاح، لأنّ الإصرار على الحياة هو السبيل الوحيد للفلسطيني للنجاة، وليس هنالك أبلغ مما قاله درويش عن تلك الأرض الطاهرة، حيث إن عليها دائمًا "ما يستحق الحياة".

فلسطين التي هي مِنَّا

 من جهته، يؤكّد الصحافي أبو طالب شبوب، أن المثقف الجزائري يولد أصلًا في محيط تحضر فيه فلسطين بقوة، فحين كان يفتح كتاب التاريخ، كان يقرأ عن العالم المصلح أبي مدين الغوث الذي خرج مع تلاميذه من الجزائر ليشارك في تحرير فلسطين خلال الحرب الصليبية، ومازال "باب المغاربة" شاهدًا على رحلته إلى اليوم، وحين يذهب للمسرح سيتذكر المسرحي الجزائري الشهيد محمد بودية (1973) الذي اغتالته إسرائيل في باريس لعلاقته مع الثورة الفلسطينية.

يضيف المتحدث، أن الجزائري حينما يطالع نضال شعبه ضدّ الاحتلال، سيجد أن بعض أبناء بلده قد تحدوا الاحتلال الفرنسي وشاركوا في حرب 1948 متطوعين مع الجيوش العربية، أما حين يتحول الأمر إلى السياسة فسيجد أن فلسطين قد دخلت الأمم المتحدة خلال رئاستها من طرف الجزائر، وأن إعلان قيام دولة فلسطين قد حدث في الجزائر، معلقًا بالقول: "إن فلسطين بعض منا، ليست فكرة ولكنها واقع نقابله في كل مكان في الجزائر".

لا يستغرب أبو طالب شبوب حب الجزائري لفلسطين، فجوهر تاريخه هو الكفاح من أجل الحرية، وذلك أيضًا حسبه، جوهر قضية فلسطين

من جهة أخرى، يؤكّد المتحدّث أنه ليس من الغريب بتاتًا أن تحضر فلسطين في الإبداع الجزائري شعرًا ونثرا، فشاعر الجزائر الأكبر ومؤلف نشيدها الوطني مفدي زكرياء خصها بجزء محترم من الإلياذة التي كتبها لتكريم بلده، أما أشهر رواية جزائرية، "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، فقد كان أحد أبطالها فلسطينيًا.

تبدو الجزائر وفلسطين توأمي روح وكفاح في نظر شبوب، ويرى أن اكتمال استقلال الجزائر لن يتحقق إلا حين يرتفع العلم الفلسطيني فوق أسوار القدس مرة أخرى وإلى الأبد، على حدّ قوله.

خيار المقاومة

من ناحيته، صرح الكاتب عبد الوهاب بن منصور، في في حديث إلى "الترا جزائر"، أنه يمكن لأحد في الجزائر أن ينكر وجود قضية فلسطين في قلبه وذاكرته مهما كانت توجهاته ومعتقداتويؤكد بن منصور أن الجزائري يكبر مع فكرةٍ لا تقبل النقاش ولا التأويل، وهي أنّ الجزائري دوما مع فلسطين "ظالمة أو مظلومة" .

 يضيف الكاتب أنه رغم كل التغيرات الجيوسياسية واختلاف ميزان القوى في الشرق الأوسط وفي الوطن العربي منذ سنوات، لا يزايد الفرد الجزائري بالقول أن قضية فلسطين من ثوابته التي لا تتغير، كما أنّها مرتبطة بشكل أساسي دوما بقضاياه المصيرية، حتى أن كثيرا من الجزائريين يرونها قضية دينية مقدسة لا يجوز التخلي عنها أو تغيير موقعها من المركز إلى الهامش، فأعلام فلسطين ترفرف دومًا مع العلم الجزائري في كل محفل حتى ولو كان محفلًا رياضيًا، مثلًا، أو في مسيراته المصيرية، مثلما شاهدنا ولا زلنا نشاهد في حراكه ومسيراته

يشير عبد الوهاب بن منصور إلى أن الجزائر كانت كعبة الثوار ومنطلق المنظمات التحرّرية على اختلاف مشاربها ومواقعها، وهذا يرجع حسبه بلا شك، لما عرفته الجزائر أثناء مسيرتها التحررية الطويلة من الاستعمار الفرنسي، ولذلك فالجزائري لا يرى إلّا خيار المقاومة كحلّ مختصر للتحرّر.

عبد الوهاب بن منصور: أسقطت المقاومة خيار التطبيع وفكرة التعايش السلمي الذي بنى عليه الكيان الصهيوني مجده

في الأخير، يصرّ بن منصور على حل المقاومة في الأراضي المحتلة، فإذا ما نظرنا إلى مسار القضية الفلسطينية وتبنيها خيار الأرض مقابل السلام منذ مؤتمر مدريد ثم أوسلو، فالخيار الوحيد الذي يمكنه فعلًا تحرير الأرض وقلب ميزان القوى ودفع الاحتلال لمراجعة حساباته، "وهذا ما وقفنا عليه مؤخرًا، فقد أسقطت المقاومة خيار التطبيع وفكرة التعايش السلمي الذي بنى عليه الكيان الصهيوني مجده" يضيف المتحدّث.