لم تستطع السينما والدّراما معًا في الجزائر أن تصنعا تراكمًا صحيًّا، يقوم على الاستمراريّة ونبذ القطائع بين الأجيال والخبرات؛ لذلك نستطيع القول إنّهما تقومان على وجوه وتجارب معيّنة، لا على منظومة لها توجهاتها وإمكانياتها بما يصل بها إلى مقام الصّناعة.
"المفتش الطاهر"هي سلسلة أفلام كوميدية عابرة للأجيال والجغرافيا الجزائرية
ويأتي المخرج موسى حدّاد، منذ كان مساعدًا في فيلم "حرب الجزائر" للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكرفو عام 1966 إلى رحيله، الثلاثاء، عن عمر اقترب من 82 سنة، كواحد من الوجوه والتجارب التي قامت عليها السينما في الجزائر.
اقرأ/ي أيضًا: مهرجان مونبلييه للسينما المتوسطية.. نكهة جزائرية
كانت العشرية الأولى، التّي تلت الاستقلال الوطني سنة 1962، مفتوحة على ندرة الإمكانيات والكفاءات المتخصّصة، بعد الانسحاب الفرنسي بكلّ كفاءاته، فكان فرض هوّية جزائريّة في الفنون، خاصّة السينما، تحدّيًا كبيرًا.
نذر موسى حدّاد نفسه لهذا التحدّي، رفقة نخبة أخرى من المخرجين، وأطلق عام 1967، أي بعد خمسة أعوام فقط من الاستقلال، فيلم "المفتّش الطّاهر" مدشّنًا بذلك سلسلة كوميديّة عابرة للأجيال والجغرافيا الجزائريّة. ولم تزل حتى اليوم تثير الضحك والاهتمام والشغف.
شكّل الثنائي حاج عبد الرحمن "المفتش الطاهر"، بلهجته المستوحاة من لهجة منطقة جيجل في الشرق الجزائريّ، ويحيى بن مبروك (البرانتي/ المساعد) بمغامراتهما البوليسيّة عصب هذه السلسلة، التي كان يؤدّي عرض أحد أفلامها في التلفزيون الجزائري إلى خلوّ الشّارع الجزائريّ من المارّة.
يقول المخرج المسرحي علي عبدون في حديث لـ"ألترا جزائر"، إنها تجربة غير قابلة لأن تتكرّر أو تقلّد، "لأنّها ثمرة لفهم المخرج وكاتب السيناريو والممثّلين فهمًا عميقًا لهوّية الشارع الجزائري، في تلك السياقات والظروف، في مجال الضحك والفكاهة، فحدث أنها استقطبت المجتمع كلّه من الرئيس بومدين، الذي كان يضبط اجتماع مجلس الثورة على موعد بث الفيلم، إلى الفلاح البسيط في القرية".
توقّفت السّلسلة برحيل الحاج عبد الرحمن في باريس عام 1981. ولم يستطع يحيى بن مبروك ولا موسى حداد نفسه أن يبعثا فيها أنفاسًا جديدة، لأن ثمّة وجوهًا لا تعوّض أبدًا.
هناك أفلام رصدت عمق ثورة التّحرير، مثل "أولاد نوفمبر" عام 1975، و"تحرير" عام 1982، والتي رصدت عمق الفكاهة الجزائريةّ، مثل "عطلة المفتّش الطّاهر" عام 1972، والتّي رصدت عمق الواقع الاجتماعيّ الجزائريّ، مثل "صنع في" عام 1999 و"حرّاقة بلوز" عام 2012. ظلّ موسى حدّاد لصيقًا بالهواجس الجزائريّة، ولكن من منظور إنسانيّ صرف، فكان في طليعة المخرجين، الذّين لم يرتبطوا بأذهان ووجدان جيل محدّد. وقد لمسنا هذا من خلال تفاعل الجديد من الممثلين والمخرحين، مع خبر رحيله، في مواقع التّواصل الاجتماعيّ. أو خلال حفل تكريمه عام 2018 من طرف نادي قدماء الثقافة والإعلام.
موسى حدّاد كان راهبًا حقيقيًّا في قلعة السّينما الجزائريّة
يقول الممثل سيد أحمد بن عيسى لـ "ألترا جزائر"، إنّه كثيرًا ما نتحدّث عن صمود القلاع في وجه الظروف. "لكنّنا لا نتحدّث عن دور الرّهبان في ذلك، وموسى حدّاد كان راهبًا حقيقيًّا في قلعة السّينما الجزائريّة". يضيف بن عيسى: "لم نعد مطالبين فقط بحفظ إرث الرّاحل، بل أيضًا بخلق مناخات مساعدة للجيل الجديد المؤهّل لأن يكرّر أسطورته".
اقرأ/ي أيضًا:
متى ستُوثق السينما الجزائرية لجزائر الحاضر؟
هل أساء فيلم أحمد راشدي الجديد للثّورة الجزائرية؟