من العبارات التي أثارت الضّحك في القطار الرّابط بين مدينتي الثّنية والجزائر العاصمة، "عوض أن يبحث الجزائري عن امرأة من ذهب، بات يبحث عن امرأة تملك الذهب"، ذلك أنّ الجزائريات، على اختلاف أجيالهنّ ومناطقهنّ ومستواهنّ العلمي، يستثمرن معظم ما يحصلن عليه من مال، في شراء الذهب، المسمّى شعبيًا "الصّيغة" أو "الصّياغة"، ليس لاستعماله في الأعراس والمناسبات السّعيدة فقط، بل للاستعانة به وقت الحاجة. "إنّه مفرّج الكربات والضّامن عند الملمّات"، تقول إحداهنّ ردًّا على عبارة القطار.
مع التحولات التي يعرفها المجتمع الجزائري، لم يعد حضور بائعات الذهب مقتصرًا على البيوت والأعراس بل باتت لهن أسواق بعضها غير قانوني
في السّابق، كانت "الدّلّالة"، وهي بائعة الذّهب، من أكثر النّساء المرحّب بحضورهنّ إلى الأعراس، حيث تجلب قطعًا ذهبية تتخاطفها النساء بمبالغَ يدفعنها فورًا أو يتركنها إلى آجال مسمّاة، بالنّظر إلى الثّقة بين الطّرفين. ولمكانتها في النّفوس، فهي تأكل مع العروس، فعادةً ما تكون سببًا في حصولها على هدايا ذهبية، من طرف الحاضرات.
مع التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية، التي عرفها الفضاء الجزائري، في العقود الثّلاثة الأخيرة، منها التحاق المرأة بسوق العمل، لم يعد حضور بائعات الذّهب مقتصرًا على البيوت والأعراس، بل باتت لهنّ أسواق معروفة في كلّ تجمّع سكّاني تقريبًا، خاصّة في المدن الكبيرة، وهي أسواق غير مرخّص لها قانونيًا، لذلك فهي تسير بمنطقي الثقة والتحفّظ.
اقرأ/ي أيضًا: العرس الجزائري.. طقوس تقاوم النسيان
من مظاهر هذا التحفّظ، أنّ معظم البائعات يلجأن إلى تغطية رؤوسهنّ ووجوههن، لأسباب تنفي سعيدة كونها تتعلّق بالحشمة بالضّرورة. "إنّنا نفعل ذلك حتى لا نُعرف، فسوق الذّهب جالبة لكثير من المشاكل، وحتى لا نُحرج مع من يعرفنا من قاصدي السّوق، وحتى نستعمل لباسنا ذاك، في إخفاء كمّيات الذّهب". تضيف: "أنا نفسي، أرتدي لباسًا مختلفًا بمجرّد أن أغادر السّوق".
قبالة محطّة الميترو المعروفة بـ"المعدومين الخمسة" في ضاحية حسين داي بالجزائر العاصمة، تشرع الدّلّالات في احتلال الحديقة والرصيف القريب منها، مع شروق الشّمس، في مشهد يبدأ صامتًا، ثمّ ينخرط في الحديث فالضّجيج، مع التحاق الزّبونات والزّبائن ساعةً بعد ذلك. تقول وردة المعروفة بأمّ المساكين لأنّها تتعامل كثيرًا مع الزّبونات اليتيمات، وقد تركت العمل في مجال الصّيدلة، بعد أن اكتشفت خفايا سوق الذّهب: "كلّ الأحاديث هنا تصبّ في تجارة الذّهب، بما فيها تلك التي تُعدّ نميمةً، وككلّ التجارات، هناك التّنافس بيننا والتّواطؤ والنّزاع والمؤامرة والتّحالف، غير أنّني أعترف أنّ الملتحقات الجديدات بهذه السّوق، يعانين في البداية أكثر من الملتحقات الأخريات بأسواق أخرى".
ككل تجارة يحتد التنافس والنزاع بين بائعات الذهب الجزائريات خاصة في سوق غير قانوني يهيمن عليه تبييض الأموال
تشرح الفكرة: "الانطباع السّائد أنها سوق تدار من طرف الفقيرات لأجل الفقيرات، لكنّها في الحقيقة تدير أموالًا ضخمة، فهي تشكّل سوقًا موازية لسوق الذّهب الحكومية، وتلقى تشجيعًا وحمايةً من بعض المتنفّذين، لأنهم يتخذون منها حقلًا لتبييض أموالهم، تمامًا مثلما يشجعون ويحمون السّوق الموازية في العملة الصّعبة". تضيف: "من هنا، تكون كلّ ملتحقة جديدة بالسّوق، محلَّ شبهة أوّلًا، ومحلَّ منافسة ثانيًا، ولا تقلّ مشاكلها إلا بعد أن تكشف أوراقها، أو تضع نفسها تحت تصرّف دلّالة قديمة".
اقرأ/ي أيضًا: سوق حمّام الضّلعة في الجزائر.. طقوس الجماعة
تتراوح أعمار الدّلّالات بين الثّلاثين والسّبعين، وفيما تتخصّص بعضهنّ في قطع معيّنة، مثل الأقراط أو الخواتم، تبيع وتشتري أخريات جميع القطع، بما فيها ذات الأسعار المرتفعة، مثل الأحزمة والقلادات والتّيجان. تقول أمّ المساكين إنّ العبرة ليست بتنوّع السّلعة أو ضخامة وزنها، "فقد تبقى السّلعة الغالية أسبوعًا في يد صاحبتها، فيما تبيع صاحبة القطع الصّغيرة عشرًا في اليوم الواحد. لا بدّ من وعي حادٍّ بالسّوق".
وهذا الوعي بالسّوق متوفّر حدّ الإدهاش، لدى معظم الدّلّالات، رغم أنّ معظمهنّ لا يقرأن ولا يكتبن، فهنّ مواكبات لأسعار الذّهب في الأسواق الوطنية والدّولية، ولصعودها وهبوطها، بناء على أحداث معيّنة في العالم، حتى أننا سمعنا بعضهنّ يتحدّثن عن أسعار الذهب في دبي وماليزيا وتركيا، بل إنّ إحداهنّ تحدّثت عن شارع بايزيد في إسطنبول، ووجود محلّ لشاب جزائري، يستقبل الذّهب المهرّب من الجزائر.
تحرّينا في الأمر، فعلمنا أن كثيرًا من الشّباب الذين يقصدون الأسواق التي تديرها دلّالات ودلّالون، يشترون كمّياتٍ من الذهب، بالنظر إلى الأسعار المنخفضة بالمقارنة مع الأسواق الحكومية، فقد يصل الفارق إلى عشرة دولارات أمريكية في القطعة الواحدة، ويقومون بتحويلها إلى سبائك يتمّ بيعها في هذا الشّارع التركي، مستفيدين من تسامح السّلطات التركية مع كلّ ما يدخل البلاد من معادن.
لا تتجلّى خبرة الدلّالة في التّفريق بين الذّهب الأصلي والذّهب المغشوش فقط، إذ قلّما تذهب إحداهنّ ضحية للغشّ، كما تكشف لنا الخالة محرزية، رغم وجود كمّيات معتبرة من الذّهب المغشوش في الفضاء الجزائري، بل في الطرق التي تنتهجها لإقناع زبونة أو زبون بالبيع لها أو بالشّراء منها أيضًا، "أنطلق من قاعدة أنّ كلّ من تأتي إلى هنا لتبيع أو تشتري فهي محتاجة، وما علي إلا أن أستثمر في تلك الحاجة، حتى تتمّ العملية". تتدارك: "إنها ليست حيلة، بقدر ما هي خبرة وبراعة يسمح بهما منطق التجارة".
وإذا تمكنت بعض الدلّالات، بفضل تجارتهنّ، من شراء بيوت وسيّارات لأولادهن، وتجهيز بناتهنّ في زواجهن، فإنّ معظم زبوناتهنّ يلجأن إلى بيع ذهبهنّ لتحقيق ذلك، وربما أقلّ منه، مثل التكفّل بعملية جراحية عاجلة، أو شراء كبش العيد، أو مستلزمات الدّخول المدرسي، أو دفع تكاليف الإيجار، ولأنّ شهر رمضان على الأبواب، فإنّ عدد المقبلات على بيع قطعة من حليّهن في تزايد هذه الأيّام. تقول إحداهنّ لـ"الترا صوت" إنه على الذين يحاربون مثل هذه الأسواق، أن ينتبهوا إلى هشاشة القدرة الشّرائية للجزائريين اليوم، "إنها تسترنا أكثر ممّا تبتزّنا".
اقرأ/ي أيضًا: