منذ عقود، لم تحسم الحكومات المتعاقبة، مسألة تعويم الدينار بشكلٍ رسمي بحجّة استقرار الجبهة الاجتماعية، والمحافظة على القدرة الشرائية، ورغم الوضع المالي الهشّ الذي تعرفه البلاد، لم يتضمّن البرنامج الحكومي الأخير أيّة خطوة لإعادة النظر في قانون القرض والنقد بشكلٍ جذري، حيث لا يزال سعر الصرف تحت سيطرة الحكومة عبر البنك المركزي.
يحتاج الانتقال من العملة الثابتة إلى العملة المرنة إلى اقتصاد قويّ، قادر على تحمل الانعكاسات السلبية لعملية التعويم
التعويم هو صرف العملة العائمة، أيّ المحررة بشكلٍ كاملٍ من تدخّل الحكومة، أو البنك المركزي في تحديد قيمتها السوقية، ليصبح مصيرها في يد سوق المعاملات المالية.
اقرأ/ي أيضًا: 5 سلوكات شعبية تدلّ على "هوان" الدينار الجزائري
رفض شعبي
تتحفّظ أوساط اجتماعية وسياسية على إجراء تحرير الدينار، إذ يرى خبراء في الاقتصاد المالي، أنّه في ظلّ هشاشة الاقتصاد الوطني، وعجز الموازنة العامة، إضافة إلى ضعف الاستثمارات الخارجية وتراجع احتياط الصرف من العملة الصعبة، يعتبر تعويم الدينار مغامرة خاسرة، وقفزة نحو المجهول.
وحسب مختصّين، يحتاج الانتقال من العملة الثابتة إلى العملة المرنة إلى اقتصاد قويّ، قادر على تحمل الانعكاسات السلبية لعملية التعويم، والمتمثّلة في انهيار العملة الوطنية، وتهاوي معدّلات التضخّم وتراجع القدرة الشرائية للمواطن، بينما يعاني الاقتصاد الجزائري من التبعيّة التامّة للمحروقات والتسيير المركزي والبيروقراطية، وغياب صناعة قاعدية، إضافة إلى انعدام نظام مصرفي عصري.
وفي حديث إلى "الترا جزائر"، قال أستاذ الاقتصاد من جامعة المدية عمر هارون، إنّ تعويم العملة يعني إخضاعها لقوى العرض والطلب، محذرًا من انهيار تاريخي في قيمة الدينار الجزائري، مقابل العملات الأخرى، لو اتخذت الحكومة مثل هذا الاجراء.
وأشار محدّثنا أن الإبقاء على الدعم بشكلٍ كبير، سيؤدّي لاستنزاف احتياطي الصرف، ولهذا لا زال بنك الجزائر المركزي، يطبق سياسة الدعم النسبي حسب قيمة احتياطي الصرف، موضحًا أنه كلّما تراجع الاحتياطي قابله تراجعٌ في الدعم، مما يعني أننا سنُجبَر على التخلّي عن دعم الدينار بمجرّد تراجع الاحتياطي.
أضاف الخبير، أن عدم وجود اقتصاد قويّ كما هو الحال الآن، ومع أي تحرير للعملة بشكل كامل، سيؤدّي إلى انهيارٍ تاريخي في قيمة العملة بما قد يفوق 300 في المائة.
نحو اقتصاد أكثر توازنًا
في المقابل، يرى فريق من المختصّين أن تعويم الدينار، قد يعزّز من القدرات التنافسية الاقتصادية للجزائر، حيث يشكّل تحرير سعر الصرف والخدمات والسلع، وترك تحديدها للأسواق، ضمانًا للوصول إلى حالة من التوازن المالي والاقتصادي والتجاري، فالتسيير الإداري والحكومي للسوق المالية، قد يراهن على القيمة الحقيقية للواقع الاقتصادي والتنموي وعدم التحكّم في معدلات التضخم بشكل شفاف.
وتدافع الهيئات المالية العالمية، كالصندوق النقد الدولي والبنك العالمي عن هذا الخيار، حيث تشجع هاتان الهيئتان، الدول التي تعرف تحوّلات من الاقتصاد المركزي إلى الاقتصاد الحرّ، على اتخاذ خطوة تحرير سعر الصرف، كإجراءٍ نحو التحرير الاقتصادي من كل أشكال تدخّل الحكومات، فالجزائر مثلًا، تتعرّض إلى ضغوطات من الصندوق النقد الدولي لخفض قيمة العملة الوطنية.
التعويم الموجه
رغم تكذيب الحكومات المتعاقبة لعملية تعويم قيمة الدينار، يخفض البنك المركزي قيمة الدينار عبر آلية "التعويم الموجّه"، وهذا منذ تراجع أسعار المحروقات، فمنذ سنة 2014 تشهد العملة الوطنية تراجعًا ملحوظًا، مقابل الدولار، حيث انخفض إلى 93.23 دينار لكل دولار واحد سنة 2015، ليصل إلى 123 دينار لكل دولار واحد سنة 2020.
ويرتبط سعر الصرف بأسعار النفط، ويلجأ البنك المركزي، إلى خفض قيمة الدينار دوريًا عبر التعويم الموجّه، وليس عبر السعر الثابت.
خطوات أخرى
مما لا شكّ فيه، هو أن التعويم يحمل إيجابيات في القدرة التنافسية للاقتصاديات الناشئة، لكن هذا يعتمد على اتخاذ خطوات متدرّجة ترافق عملية تحرير سعر الصرف، خطوات تنويع المداخيل من العملة الصعبة، وجذب الاستثمارات الأجنبية، ورؤوس أموال دولية، وهذا قصد تفادي المضاعفات الاجتماعية السلبية كارتفاع البطالة والفقر.
تجدر الإشارة إلى أن حكومة الإصلاحات التي ترأسّها مولود حمروش سنة 1989، كانت قد اتّخذت مخططًا يتضمّن التدرّج في تعويم العملة، على مدار خمس سنوات، وتحرير سعر الصرف نهائيًا سنة 1995، على أن ترافق ذلك إصلاحات هيكلية وصناعية وفلاحية، وحتّى في مجال السياسة النقدية.
تؤثر عملية تخفيض قيمة الدينار أمام الدولار سلبًا على المواطن، وتكبده فاتورة التراجع المستمرّ في القدرة الشرائية
على العموم، تُعتبر عملية التعويم، قائمة دون أن تعلن عنها الحكومة بشكلٍ رسمي، وهذا عبر تدخّل البنك المركزي بشكلٍ مستمرّ وفق معدلات احتياطي الصرف الذي يعرف استنزافًا كبيرًا، وبدل مرافقة التعويم الموجّه بجملة من الإصلاحات الاقتصادية، تؤثر عملية تخفيض قيمة الدينار أمام الدولار سلبًا على المواطن، وتكبده فاتورة التراجع المستمرّ في القدرة الشرائية.
اقرأ/ي أيضًا:
5 سلوكات شعبية تدلّ على "هوان" الدينار الجزائري
لأوّل مرّة منذ بداية الحراك.. أسعار الأورو تنتعش في سوق "السكوار"