طاسيلي ناجر.. أكبر متحف مفتوح على الهواء، بالجزائر والعالم، عمره نحو 30 ألف عام، لا يزال لغزًا يُحيّر العلماء والباحثين المتخصّصين في الآثار والحفريات القديمة، بعد اكتشاف كهوفه ورسوماته الصخرية لأول مرّة سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي من قبل جزائري وليس فرنسيًا كما يشاع.
في مطلع الثلاثينات قرّر جبرين ابن منطقة تامغيت في قلب هضبة الطاسيلي القيام برحلة استكشافية دامت لنحو شهرين ونصف ليقف على أسرار المدينة الضائعة
بولاية إليزي، يأسرك التاريخ وتجذبك أسرار عمرها آلاف السنين، نحتتها ظروف الطبيعة والإنسان على صخور وكهوف عجيبة بمدينة سيفار الساحرة، "تسرق" الداخل إليها وقد لا يعود منها أبدًا، لمتاهاتها الكثيرة فلو غاب المرشد ضاع الزائر وتاه في الصحراء، فشفراتها لم تفك بعد، رغم البحوث والدراسات التي أجريت، نسجت حولها فرضيات وأساطير، فيقول البعض أنّها مدينة الجنة، ويذهب آخرون إلى فرضية أنّها كانت موطن مخلوقات فضائية حسب إيحاءات الرسوم المحفورة في صخورها، فيما يعتقد البعض الأخر أنّها تؤرخ لقارة "أطلانتس المفقودة".
ولعل المثير وما خفي من هذه القصص هوية مكتشف رسومات طاسيلي ناجر، الواقعة بمنطقة جانت بإليزي، (جنوب شرقي البلاد)، ليس الفرنسي هنري لوت كما يشاع، ولكنه جزائري يدعى جبرين مشار.
من هو جبرين مشار؟
وفق وثيقة حصرية تحصلت عليها "الترا جزائر" توثق لشجرة العائلة، ينحدر جبرين واسمه الكامل جبرين أق محمد أق مشار أق بوبكر، من مواليد 1890م، من قبيلة "كيل مداك" التي سكنت منطقة تامغيت في قلب هضبة الطاسيلي، وزوجته أيوب مامة بنت أغالي وتمرت بنت حاميد.
مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي، قرر جبرين القيام برحلة استكشافية، دامت لنحو شهرين ونصف بطاسيلي، حيث سيفار المدينة الضائعة، وإحدى عجائب الكون.
كما عشرات الوجوه البارزة في التاريخ والرسم والأدب والعلوم والفنون، يظل جبرين مشار يحظى بقسط من التهميش والتناسي، فلا يكاد يعرف في بلاده.
وبعد انضمامه إلى فريق بحث فرنسي في ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن يتوقع جبرين ابن المنطقة بعد سنوات أن يذهب اكتشافه أدراج الرياح، ويُغيّب بسبب مخطط هنري لوت الباحث الفرنسي الذي تعامل معه ونسب إليه اكتشاف الفن الصخري بالطاسيلي.
يقول أبوبكر مشار حفيد مشار جبرين إنّ "جبرين كان رجل يحب السياحة والتجوال والسفر، لا يكاد يمكث في مكان واحد، كان رحالة ينتقل من منطقة إلى أخرى وسط الصحراء الشاسعة".
يضيف جبرين بسرد مشوق: "يحق لي أن أصف جدّي جبرين بالفنان، الذي يهوى الاكتشاف والمغامرة، يسافر وحيدًا، وأحيانًارفقة والدي سوغي مشار في "غياهب الصحراء".
جبرين.. وهنري لوت
بوبكر يعود في حديثه مع "الترا جزائر" إلى بدايات جبرين مع الباحثين الفرنسيين، فيوضح أنّ "جده لم يلتق بهنري لوت في بداية الأمر، بل كان لقاؤه الأول مع الرحّالة والباحث بيرنان، والأخير بعد نهاية مهمته في الجزائر، أوصى هنري لوت، بأن يعتني بجبرين ويتخذه دليل سفر وبحث.
قاوم جبرين قبل دخوله عالم الاكتشافات وعلوم النبات والحيوانات الاستعمار الفرنسي بمنطقة أفاكو رفقة أبناء المنطقة المغيّبة في كتب التاريخ حسب ما يرويه بوبكر مشار، الذي أشار إلى أنّ فرنسا آنذاك كانت تعذّب وتقتل من يرفض التجنيد، لكن بالنسبة لجدّه جبرين مشار، اتخذته دليلًا سياحيًا وعلميًا عام 1920 بعدما تفطّن أحد الضباط إلى عبقريته وخبرته في تقفي الأثر وولعه الشديد بالسفر ومعرفته الكبيرة بـ"دهاليز" الصحراء وتضاريسها.
لا يُخفي محدثنا أنّ الراحل جبرين مشار كان يتميز بالإضافة إلى معارفه العميقة بخبايا الصحراء، إجادته للقراءة وكتابة حروف التفيناغ، ما أهلّه -حسبه- لأن ينُصّب كدليل رسمي في مختلف الخرجات العلمية والأبحاث التي كان يقوم بها الفرنسيون في طاسيلي ناجر.
دليل طاسيلي نازجر
ثمة متعة عندما تستمتع إلى حكاية دليل الصحراء جبرين بلسان حفيده، تشعر بصدق الكلمات والرواية، وتكتشف حقيقة ظلت مجهولة خاصة في علاقتة بـ "هنري لوت" الذي نسب اكتشافات رسوم الطاسيلي إلى نفسه وتدوين معلومات مغالطة غير تلك التي استقاها وعلّمه إيّاها جبرين، قبل أن يقوم بتصحيح ذلك مرغمًا لا مخيرًا في كتابه الثاني بعد "غضب" طاله من اليونسكو والصحافة العالمية. حسب أبوبكر مشار.
المتحدث أبوبكر وهو دليل سياحي عبّر عن أسفه لما وقع لجبرين بعد تغييب إنجازاته من قبل الفرنسي هنري لوت، في مؤلفه الأول، معتبرًا أنّ ما قام به لوت يعدّ إجحافًا في حق شخص أعطى الكثير للجزائر بإبرازه للعالم إحدى عجائب الكون.
توقفت علاقة جبرين الذي تعامل مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم (يونسكو) مع هنري لوت بعد مغادرة الأخير الجزائر نهاية السبعينيات من القرن الماضي.
في معرض سرده عن محطات جبرين في الصحراء وعلاقته بالفرنسيين أوضح أبوبكر مشار أنّ "جبرين كانت تجمعه بالإدارة الفرنسية علاقة عمل وسياحة فقط وكان يؤجر (مقابل مادي) عليها".
وحول جوانبه الإنسانية لم يخف المتحدث أنّ "جده أهل كرم ووفاء، يحسن التعامل مع الناس وخاصة السواح، يحب استقبالهم متى أتيحت له الفرصة، للتعريف بالموروث الثقافي والطبيعي للمنطقة والترويج له".
الرحلة الأولى والثانية
رحلة جبرين الأولى طالت عدة مواقع من بينها تامغيت، "إن إتين"، إتغس نالياس، سيفار، "تين تزريفت"، "تين أبتيكة"، "تين التوهامي"، "تين كنى"، "إجاباران"، كما لم يخرج منها خالي الوفاض، حيث اكتشف رسوما جدارية ونقوشا صخرية متنوعة ومغارات ومعالم جنائزية ومستحثات وأدوات تعود إلى الإنسان القديم الذي سكن المنطقة.
شغف جبرين كان أكبر، بحلم أوسع، فاستأنف عام 1932 رحلاته البحثية، حيث نزل أولًا بمنطقة تادرارت، هنا ما كان على الإدارة الاستعمارية إلاّ أنّ تستنجد به، وتتخذه كدليل في أول مهمة استكشافية ترأسها النقيب برينان عام 1933. حسب تصريح أدلى به لـ"الترا جزائر" الباحث والأكاديمي الجزائري بودة العيد.
بودة أشار في حديثه إلى إنّ "المعلومات حول دليل الصحراء مشار جبرين شحيحة جدا والمصادر قليلة، حيث أنّ ما تحصل عليه يتعلق باللقاء الأول بين جبرين والباحث الفرنسي هنري لوت الذي قرر نشر أبحاث موثقة عن جواهر الطاسيلي ونشرها في خمسينيات القرن الماضي".
ما شجع لوت هنري على المضي قدمًا في أبحاثه، اعتماده على نتائج انبثقت عن رحلة الرحالة بيرنان في العام 1935، إلاّ أنّ لوت استعان بجبرين خاصة بعد تقدم بيرنان في السن وعجزه عن شق الصحراء كما كان في شبابه. وفق بودة.
ويكشف بودة صاحب دراسة حول "لثام الطوارق" أنّ جبرين رافق "لوت" في مهمة علمية مسحًا خلالها مساحات شاسعة من طاسيلي نازجر المعروفة في لغة الطوارق بـ"هضبة الثور"، وتمتد على مساحة 72 ألف كيلومتر مربع، بعرض من 50 إلى 60 كلم وطول 800 كلم، إضافة إلى ارتفاع عن مستوى سطح البحر بأكثر من 2000 متر، ورغما عنه اعتمدت عليه الإدارة الفرنسية في جملة من المهمات العسكرية لرسم الخرائط، ولعل أشهرها مهمته في تادرارت و"أميوك" عام 1937.
وقبل استقلال الجزائر (1962) بـ13 عامًا، أصبح مشار جبرين يحظى بسمعة كبيرة، بل دخل البحث العلمي الأكاديمي عبر بوابة جامعة الجزائر، وكان ذلك بين عامي 1949 و1952، حيث عُيّن دليلًا رسميًا للجامعة.
وبعد الاستقلال وتحديدا عام 1978 عُيّن جبرين في منصب مسؤول عن مخيم تامغيت للسياح (تابع لشركة سوناطراك الحكومية)، ثم نصب دليلًا سياحيًا لمختلف البعثات العلمية والسياحية التي تحل بالطاسيلي. حسب المعلومات التي استقاها الباحث بودة من مصادر مختلفة.
الأيام الأخيرة لمكتشف "أطلانتس المفقودة"
بعد رحلة جبرين مشار الطويلة المليئة بالأسرار والاكتشافات بحظيرة الطاسيلي المصنفة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، كانت محطته الأخيرة بتاريخ 22 فيفري 1981، بقرية إن بربر، بجانت حيث وافته المنية عن عمر ناهز 90 عامًا. يقول حفيده أبوبكر مشار.
وبحسرة يتحدث مشار أبوبكر عن الأيام الأخيرة لجبرين قبل وفاته: "رغم ما أنجزه وما حققه من اكتشافات، تعامل مع اليونسكو، قاد قوافل السواح والبعثات العلمية، لكن في أيامه الأخيرة دخل مستشفى مصطفى باشا الجامعي، بالعاصمة، ولم يحظ بزيارة المسؤولين، ولدى عودته إلى مدينة جانت، توفي، في منزل مُنح لأولاده في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، أمّا منزله الأول فعبارة عن بيت حجري أشبه بالأطلال شيدته الطبيعة وسط الأحراش والصخور بمنطقة تماغيت".
ساهم جبرين مشار في اكتشاف جزء من اعتبر من بين آلاف النقوش والكهوف في منطقة طاسيلي
من بين 15 ألف رسم ونقش ونحت لآثار الإنسان القديم والحيوانات والنباتات تحتويها الطاسيلي، ساهم جبرين في اكتشاف جزء معتبر منها، وإخراجها من "كهوفها" المظلمة إلى العالم، أفلا يستحق التكريم والإشادة والتعريف بما أنجزه؟، لماذا لم توثق سيرته واكتشافاته المذهلة في كتب ودراسات بأقلام باحثين جزائريين؟ هل مُقدر أن يبقى جبرين طي النسيان؟.