غير بعيد عن الذكرى الثامنة والخمسين لرحيل المفكّر والطبيب البارز فرانز فانون (توفي يوم 6 كانون الأوّل/ ديسمبر 1961)، اختارت جيجيقة براهيمي، أستاذة الفلسفة بجامعة الجزائر، والحائزة على شهادة دكتوراه في فلسفة الفنّ، أن تكرمه بطريقتها الخاصّة، من خلال الرواية التي أصدرتها مؤخّرًا عن "دار خيال" بالعنوان الذي يحمل اسمه.
القارئ لرواية "فرانز فانون"، كأنه بصدد مشاهدة عمل سينمائي وثائقي
الرواية الجديدة، جاءت بعد سنين طويلة من الصمت والنسيان الذي طال واحدًا من كبار مفكّري الإنسانية، الذي سخّر فكره وحياته للجزائر وأوصى بأن يُدفن في ترابها وبقى منذ وفاته يرقد في مقبرة صغيرة منسية عند الحدود الجزائرية مع تونس.
اقرأ/ي أيضًا: إدوارد سعيد قارئًا تاريخ الرواية العربية
القارئ لرواية "فرانز فانون"، كأنه بصدد مشاهدة عمل سينمائي وثائقي، فيه الكثير من الحقائق التاريخية المكتوبة بلغة الباحث المحقّق، مثلما فيه بعض "المشاهد التمثيلية" التي تدعّم الفكرة الأساسية وتكمّلها.
ليس غريبًا إن قرأنا في متن هذا العمل، أسماءً كثير من الشخصيات الحقيقية التي سبق وأن قرأنا لها أو قرأنا عنها على غرار جان بول سارتر، وفرانسيس جونسون، وباتريس لومومبا، وإيمي سيزر، وعيسى مسعودي وغيرهم، إلى جانب شخصيات أخرى يبدو أنها من خيال الكاتبة، لكنها تخدم العملية السردية، وتملأ الفراغات دون أن تتناقض مع الحقيقية التاريخية، وذلك هو سرّ اللعبة السردية التي عملت عليها الكاتبة عبر مختلف صفحات الكتاب.
وفي قراءته الأولية للنصّ، يرى هزرشي عبد الباقي، الكاتب وأستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر، أن النصّ "يغوص في حياة فانون وفكره عبر أبرز المحطات النصيّة ( سوسيولوجيا الثورة، بشرة سوداء أقنعة بيضاء، معذبو الارض...) وهو سرد لمعاناة الجزائر وإفريقيا الموضوع النضالي الأثير لفانون، يستحضر في مادة كتابته، أسماء ومحطات شخصية تاريخية هامة".
ويضيف هزرشي، أن المعادلة الفنيّة تتحرّك هنا لكتابة النصّ على هامش السرد التاريخي وبموازاته لكي ترسم بحذق، وتتعقّب في الآن نفسه الوقائع الفنية، وتفكّكها وتقراها على نحو جمالي خاص".
وإضافة إلى الشخصيات التاريخية التي استعارتها الكاتبة من كتب التاريخ والفلسفة والسياسة، تبرز "مريامة"، شخصية محورية في العمل، وربما تكون من نسجل الخيال، لكنه خيال مؤسّس وفق معطيات تاريخية، وكأنها تلك السيدة هي "لوزات إيغيل أحريز" أو غيرها من المناضلات الجزائريات اللواتي تعرّضن للتعذيب والاغتصاب على يد جلّادي جيش الاحتلال الفرنسي.
ولأن "المكان الذي لا يؤنّث لا يعوّل عليه"، مثلما يقول بعض المتصوّفة، فإن النصّ بدأ وكأنه بحث في التاريخ أو الفلسفة، قبل أن تقتحمه "مريامة" بروحها الثورية المتمرّدة وبمأساتها الإنسانية التي تعطي وجهًا آخر لنضال فرانز فانون ضدّ الكولونيالية.
في حديثها لـ"الترا جزائر"، تقول الكاتبة جيجيقة براهيمي، عن سرّ اهتمامها السردي بـفرانز فانون: "حين تكتب مقالًا في لحظة التماس الزمني لاغتيال باتريس لومومبا واستقلال الجزائر، تكون لديك الجرأة للكشف السريري من خلال المعاينة للقول إنّ إفريقيا لديها أعداء من الداخل لا بدّ من تصفيتهم قبل تصفية الاحتلال".
وتضيف قائلة إنّه "قبل أقلّ من عام على هذه النصيحة، يتم استعادتهم (أعداء الداخل) ليصبحوا سادة المقام، فهذا يعني أننا لسنا في حضرة عرّاف يقرأ الكف، بل أمام فرانز فانون الذي يقرأ طالع الكثير من الثورات".
ولأن الوقائع التاريخية، تكون أحيانًا أبلغ من الخيال نفسه، فقد اختارت المؤلّفة رسالة "بطلها" التي تكتبها في أواخر أيّام حياته، عندما اشتدّ عليها مرض سرطان الدم ويئس من الحياة، لكنه لم ييأس من نضاله ضدّ الاحتلال وكان على يقين من أن فجرًا جديدًا في الأفق، والرسالة كتبها فانون قبل شهرين من وفاته إلى صديقه روجي الطيّب.
ومما جاء في آخر تلك الرسالة قوله "إن روحي الآن تسبح في الضباب، وعلى الرغم من ذلك، فأنا لا زلت أفكّر في الشعب الجزائري، وفي كل شعوب العالم الثالث، وإننّي لم أتمكن من الصمود لحد الآن إلا بفضلهم".
فرانز فانون أحد أبرز الشخصيات الفكرية في القرن العشرين ممن فضحوا روح الكولونيالية بأدوات معرفية
وبعيدًا عن الرواية، يبدو فرانز فانون (1925- 1961) طبيب الأمراض القلبية القادم من مستعمرة المارتينيك الفرنسية، ورغم قصر حياته، أحد أبرز الشخصيات الفكرية في القرن العشرين والتي فضحت بأدوات معرفية روح الكولونيالية، من خلال كتابيه المرجعيين "معذبو الأرض" و"وجوه سوداء وأقنعة بيضاء"، اللذين شرّح من خلالهما الظاهرة الاستعمارية، مثلما تنبأ بزوال تلك الظاهرة في كتابه الآخر "استعمار يحتضر".
اقرأ/ي أيضًا: