حين أخرج المسرحي عز الدين مجوبي المغتال عام 1995، عند مدخل "المسرح الوطني الجزائري"، مسرحية "الحافلة تسير" عام 1985، كانت الجزائر الرسمية تعيش بشعارات كبرى تراهن على بريق الواجهة، بينما كانت الجزائر الشعبية تتوجه نحو انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر عام 1988، ثم موجة العنف والإرهاب بداية التسعينيات، بما جعل عنوان المسرحية معبّرًا عن المنطق العام: "المهمّ أن تسير الحافلة".
لم يختفِ هذا المنطق، بعد كل هذه السنوات، في مجالات النقل المختلفة، وضاعت فرص كثيرة، كان الجزائريون قادرين فيها، على تطوير أنفسهم في هذا الباب، خاصة تلك التي بلغت فيها أسعارُ النفط أوجَّها. فكثير من حافلات المدينة، عمرها من عمر مسرحية عز الدين مجوبي، ورغم ما داهمها من صدمات الزمان والمكان، إلا أنها بقيت "تسير".
اقرأ/ي أيضًا: الآداب والعلوم الإنسانية في الجزائر.. إلى أين؟
يعد ركوب الحافلات بالجزائر مظهرًا من مظاهر العذاب وانتفاء الحشمة، في ظل تداخل الذكور بالإناث، وكل احتجاج من أحدهم يُقابل من طرف القابض بعبارة "من أراد الراحة، فعليه بسيارة أجرة"
الغبار المتراكم على زجاج هذه الحافلات العجوز، بسبب الإهمال، سمح للظرفاء بكتابة عبارات ساخرة "على لسانها"، من قبيل: "اغسلوني" و"ارحموني" و"هل من تقاعد؟". ضبطنا أحدهم يكتب عبارة بذيئة، على الزجاج الخلفي لحافلة في مدينة الثنية، 50 كيلومترًا شرقًا، سألناه عن الدافع، فبرّر تصرّفه ذاك بالقول: "إنها الطريقة الوحيدة التي تجعل مالكها يقوم بتنظيفها، لأنه لا يستطيع أن يتحمّل مثل هذه العبارة". يشرح أكثر: "إن همّ مالكي هذه الحافلات، التي يفترض أنها أحيلت على الكاراجات منذ زمن، هو الحصول على المال فقط، ولا يلتفتون إلى تنظيفها والعناية بها، لأنهم ضامنون أن تمتلئ بالركّاب في الحالات كلّها".
يضيف محدّثنا: "الأمر لا يتعلّق بالإهمال على مستوى النظافة فقط، بل على مستوى تجديد المقاعد وزجاج النوافذ. اركب واحدة منها، على سبيل الصدفة، وسوف تجد مقاعدها مهترئة، ونوافذها إما بلا زجاج، فيصيبك برد الشتاء، وإما معوّض بمادة أخرى، مثل الألواح الخشبية، بحيث لا يمكن فتحها، فتخنقك حرارة الصيف". يتساءل: "هم يحصلون يوميًا على مبالغَ ضخمةٍ، فما المانع من أن يصرفوا بعضها، من أجل أن تكون مركباتهم مهيأة بشكل لائق؟".
أسئلة كثيرة يطرحها الجزائريون، في هذا السياق، لكنهم يركبون هذا النوع من الحافلات في النهاية، بل إنهم يحتشدون داخلها بما يجعلها شبيهة بعلب السردين. تقول جميلة الموظفة في قطاع البريد: "من مظاهر جشع أصحاب هذه الحافلات، أنهم لا ينطلقون، حين تُشغل مقاعدها كلها، بل ينتظرون حتى يمتلئ الرواق أيضًا، بحيث يصبح الركوب مظهرًا من مظاهر العذاب وانتفاء الحشمة، في ظل تداخل الذكور بالإناث، وكل احتجاج من أحدهم يُقابل من طرف القابض بعبارة "من أراد الراحة، فعليه بسيارة أجرة". إنه الجشع المعجون بالوقاحة، في ظل الحاجة إلى النقل".
نسبة كبيرة من هؤلاء القابضين في هذه الحافلات، من الأطفال والمراهقين، إما متسرّبون من المدرسة، وإما يستغلّون عطلهم المدرسية لاكتساب "مصروف". وحتى إن كانوا شبابًا، فهم غير مؤمّنين ويتقاضون أجورًا بالكاد تكفي ما يحتاجونه لأنفسهم في يومياتهم. يدخلنا بهاء الدين إلى هذا العالم: "ما كنتُ لأقبل بأن أكون قابضًا في "حافلات الموت" لولا البطالة وحاجتي إلى أن أتكفّل بنفسي، وعادة ما ينعكس المزاج السيئ، الذي تشحنني به هذه الوظيفة، إذ أشتغل من الخامسة صباحًا إلى الثامنة ليلًا، على سلوكي مع الزبائن".
اقرأ/ي أيضًا: الحبس المؤقت في الجزائر.. مساجين في انتظار المجهول
يعترف محدّثنا: "يُلزمنا قانون النقل بإعطاء التذكرة للزبون، فهي ما يضمن له التأمين في حالة وقوع حادث ما، لكن كثيرًا من القابضين يأخذون النقود ويحتفظون بالتذاكر، مستغلين جهل الناس بحقوقهم، حتى يحتفظوا بمبلغ من المال، حين يُحاسبهم أصحاب المركبات على أساس التذاكر الممنوحة".
نظافة وأناقة الحافلات التابعة لـ"مؤسسة النقل الحضري" الحكومية المعروفة اختصارًا بـ"الأرستيا"، والتزامها بالوقت والعدد القانوني للركّاب، يجعل منظر الحافلات القديمة، التي يملكها الخواص، بشعًا ومثيرًا للخوف والتقزز، وهي تدخل وتخرج في محطات "02 ماي" في الجزائر العاصمة، وضاحية بن شرقي في قسنطينة، 500 كيلومتر شرقًا، وبودواو، 38 كيلومتر وسط، وبوحنيفية، 400 كيلومتر غربًا، وتلخصه عبارة سمعناها من شاب قال إنه من مواليد عام 1995: "أحلم بأن أجد حافلة منها، تصغرني بعام واحد على الأقل".
يقول مصدر من نقابة الناقلين لـ"الترا صوت"، رفض الكشف عن هويته، إن وفدًا من نقابته التقى بوزير النقل السابق عمار غول، وتمّ الاتفاق على منح قروض بلا فائدة، تسدّد في عشر سنوات، لأصحاب الحافلات القديمة الراغبين في تجديد مركباتهم، "وقد بلغت نسبة التجديد 20% إلى غاية نهاية عام 2015".
ما شهدناه في حافلة من هذا النوع، تربط ضاحية بن شرقي بوسط مدينة قسنطينة، يشبه المناخات المرعبة لأفلام ألفريد جوزيف هتشكوك. ما لا يقل عن الثمانين من "البشر"، من بينهم أطفال وعجائزُ وشيوخ، يحتشدون في حافلة تخوض طريقًا فيه منحدر وعلو حادّان، يصعبان على مركبة جديدة وقوية، فما بالنا بمركبة يشهد لوح ترقيمها على أنها صنعت عام 1982، ويسوقها كهل يثرثر مع مجاوريه من الركاب أكثر مما ينظر أمامه، رغم وجود لافتة مكتوب عليها: "ممنوع الحديث مع السائق"."شوف قدامك يا عبد ربي". عبارة وجّهها أحدهم إليه، فانتفض كأنه سمع من يشتم أمَّه، وفعلًا، وصل الأمرُ إلى سبّ متبادل للفروع والأصول، كل ذلك و"الحافلة تسير".
اقرأ/ي أيضًا: