فقدت السينما الجزائرية أحد أعمدتها وأقلامها الباحث والكاتب والناقد والمخرج محمد بن صالح الذي وافته المنية، مساء الأحد الماضي، وهو في عقده الثامن، بعد مسيرة طويلة حافلة بالعطاء، مخلفًا رصيدًا ثريًا في الفن السابع لأجيال أخرى، أمّا من عاصروه وعرفوه وجمعهم به العمل والصداقة فقد بكوه ورثوه بكلمات مليئة بالمحبة والصدق، مؤكدين أنّه عاش للسينما وكان أحد روادها.
واسيني الأعرج: أشعر بخوف غريب من هذا التصحر المتواتر، ظلت وهران تعني له أكثر من مدينة، سبيلًا للحياة المتجددة
وعن رحيل محمد بن صالح الذي أثرى السينما الجزائرية بأعماله ومقالاته ودراساته ومساهماته في الجامعة بتدريس الطلبة، كتب مثقفون معروفون في الجزائر، شهادات عن بن صالح الإنسان وبن صالح الممارس والعاشق السينما، كما وثّقت هيئات رسمية لما قدمه للفن السابع في البلاد.
من "تيهان إلى "الخراج"
في السياق، جاء في الصفحة الرسمية لمديرية الثقافة لولاية وهران أنّ "شغف محمد بن صالح بالسينما كان شعّ من خلال كل عمل قام به."
وذكرت أن "الراحل تخرج من المعهد العالي للفنون البصرية في بروكسل، حيث بدأ رحلته السينمائية بإخراج أفلام قصيرة مثل "تيهان" (1968) و"لازم! لازم!" (1970)، وأول فيلم طويل له "البعض، الآخرون" عام 1972، الذي أخرجه في بروكسل وفاز بجائزة في مهرجان كنوك-لو-زووت في بلجيكا، عمل كمساعد لعدة مخرجين مشهورين مثل مارسيل هانون وجاك لامبرت، قبل أن ينضم إلى التلفزيون الجزائري حيث أخرج مسلسل اجتماعي (ست حلقات)، ومسرحيتين دراميتين، وثلاثة أفلام تلفزيونية: "الطفيلي"، "الخراج" و"اليقظة!" بين 1974 و1976، بالإضافة إلى سلسلة من 7 حلقات عن السينما بعنوان "زووم على الفن السابع".
وبحسب الصفحة "كان محمد بن صالح عضوًا في المجلس الأعلى للسمعي البصري، ومستشارًا في الاتصال لدى الوزير الأول، وأستاذًا للسينما في الجامعة الجزائرية، تعمق في عالم السينما من خلال تحرير العديد من الكتب والمنشورات العلمية وشارك في العديد من لجان التحكيم في المهرجانات السينمائية الدولية في مونبلييه وتطوان وقرطاج وواغادوغو وأميان ونانت، كان أستاذًا باحثًا في جامعة وهران-السانية ومركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية (CRASC) ، كما كان كاتبًا صحفيًا، حيث نشر حوالي 800 مقال في "الكوتيديان" و"الوطن" و"الجمهورية" و"الجزائر الأسبوعية".
وكرس الراحل حياته لدعم السينما الوطنية والدولية، وكان عضوًا في اللجنة التوجيهية للمهرجان الثقافي الوطني السنوي للفيلم الأمازيغي ومندوبًا في المهرجانات الوطنية والدولية. وكان رئيسا شرفيا لمهرجان وهران للفيلم العربي في طبعته السابعة، وصديقًا وفيًا لسينماتيك وهران، دأب على مناقشة العروض ومرافقة المخرجين المحليين. تُرجمت آخر مؤلفاته "سينما البحر الأبيض المتوسط: جسر بين الثقافات" إلى عدة لغات، مما يعكس مدى تأثيره الثقافي والفني.وفق المصدر ذاته.
الفقيد معروف بصفاته الأخلاقية والمهنية العالية، وكانت مسيرته الطويلة في الفن السابع والصحافة شاهدة على مصداقيته المؤكدة على الصعيدين الوطني والدولي، حيث يعتبر رجل الحوار والتوافق، وأحد المدافعين الشرسين عن الديمقراطية والتنوع الثقافي والوحدة الوطنية. بحسب المصدر ذاته.
رحل في صمت
من جهته، الروائي واسيني الأعرج أعرب عن صدمته برحيل بن صالح السينمائي والأكاديمي، وكتب حوله قائلا: "تحت الصدمة وأكاد لا أصدق: كيف يموت الذين نحبهم ويعنون لنا الكثير؟، قبل أن يضيف واسيني: "قلبي مشدود في هذا الصباح بفقدان الصديق والأخ الجميل خويا محمد بن صالح، القيمة السينمائية والثقافية النادرة".
وتابع واسيني قوله: "أشعر بخوف غريب من هذا التصحر المتواتر، ظلت وهران تعني له أكثر من مدينة، سبيلًا للحياة المتجددة، لم يفقد هذا الإحساس حتى في العشرية السوداء عندما استرخصت الأرواح".
المخرج التلفزيوني والمختص في الأفلام الوثائقية سعيد عولمي أوضح في منشور له على حسابه بفايسبوك أنّ "محمد بن صالح الذي يرحل في صمت مهيب، كان رمزًا حيًّا للسينما، عاش لأجلها لأنها كانت تعيش فيه".
وقال عولمي: "محمد، الباحث الأكاديمي البارز، الذي أنار دروب المعرفة لأجيال من الطلبة في مجالي الإعلام والاتصال، كان رائدًا في عالم السينما، يُشرف على العديد من المهرجانات الوطنية والدولية، ويُضيء منصات لجان التحكيم بحضوره المتميز."
ومعددا إسهاماته السينمائية "كان محمد من الذين أسسوا مهرجانات الأفلام العلمية بجامعتي سطيف والجزائر العاصمة، دائم الحضور بمحاضراته وإشرافه على الورشات التدريبية، ينثر سخاءه العلمي بلا حدود. كان رجلًا مفعمًا بالعطاء والنبل، فهو رمز للطاقة الإيجابية أينما حل، تاركًا بصماته العميقة في كل مكان."
ولم يخف عولمي أنّ "المشاركات الفعلية لبن صالح في مختلف المهرجانات الوطنية والدولية جعلت منه الباحث والسينمائي الذي أصبح وجوده ضروريًا في كل فعالية"، لافتا في معرض حديثه إلى أنه كان "يتمنى أن يُكرم وهو بيننا"، ولكن للأسف نحن لا نلتفت إلى الرجال الذين كرسوا حياتهم لتلقين المعارف وخدمة الوطن إلا بعد رحيلهم لكي تظل ذكراه حية في أذهان الأجيال القادمة، وحتى لا تُنسى إنجازاته الكبيرة في السينما والإعلام والاتصال، أتمنى أن يُسمى أحد المهرجانات السينمائية باسمه، تكريمًا وعرفانًا لما قدمه من إسهامات جليلة للفن السابع والإعلام.
ولم يكن محمد بحسب عولمي مجرد رجل عاش للسينما، بل كان تجسيدًا حيًّا للعلم والمعارف والإبداع والعطاء. ترك إرثًا غنيًا من الإسهامات حول الإعلام والاتصال والسينما لا تُقدّر بثمن، وأضاء دروب المستقبل لأجيال من السينمائيين والإعلاميين.
وزير الاتصال والثقافة الأسبق حمراوي حبيب شوقي تحدث عن مرافقة الراحل له في مهرجان وهران، وكتب هذه الشهادة: "محمد بن صالح واحد ممن زينوا مشهد السينما والفن بفكره وبحثه ونقده..وواحد ممن اعتمدنا عليهم لإنجاح مهرجان وهران السينمائي والفنك الذهبي وملتقيات السمعي البصري وورشات السينما، يغادرنا بصمت ولكن لوعة الفقد تصرخ بداخلنا...فالرجل كان يزن ثقل الأرض برزانته وعمقه الفكري".
من جهتها الإعلامية الجزائرية نبيلة بوعشة استذكرت بعض المواقف التي حدثت لها مع الراحل وكتبت قائلة: " وأنا في طريقي إلى وهران لأفاجئك بالزيارة، ترني أنا التي تفاجأت بوفاتك يا نعم الصديق، لن أنسى وقفتك معي في مجال النقد والسينما وأنا أحضر مذكرتي".
حمراوي حبيب شوقي: محمد بن صالح واحد ممن زينوا مشهد السينما والفن بفكره وبحثه ونقده
وأضافت: "لن انسى ما قمت به من أجلي ومن أجل مهرجان عنابة لفيلم البحر الأبيض المتوسط، أنت الذي زينت مشهد السينما والفن بفكرك وبحثك ونقدك، لن أنساك ولن ينساك طلبتك، لقلبك الطيب الذي لا يبخل بأي معلومة كانت، آسفة على التقصير.. صديقي".