احتكّت الثّقافة الجزائريّة بالثّقافة الفرنسيّة على مدار 189 سنةً منها 57 سنة في ظلّ الاستقلال الوطنيّ. وقد كانت النّزعة الفرنسيّة المتعالية، في المرحلتين كلتيهما، هي الغالية على العلاقة بين الثّقافتين. غير أنّ هناك وجوهًا جزائريّة وفرنسيّة معًا عملت على أن تكون جسرًا بينهما، بعيدًا عن عقدتي الهيمنة والخضوع.
يمثّل رشيد طه الرّعيل الأوّل من المهاجرين الجزائريّين، بعد الاستقلال بكل هموم الجيل وتحدياته
موسيقيًّا يأتي المغنّي رشيد طه (1958)، في طليعة الأصوات التّي حاولت أن تؤسّس لعلاقة صحّية بمنطلقات ثقافيّة وفنّيّة، بين بلدين وشعبين ظلّا محكومين بأحقاد الماضي، من غير الوقوع في تمجيد مستعمر الأمس أو تفضيل ثقافته ولغته على ثقافة ولغة الوطن الأمّ، حتّى أنّه، حسب قناة "فرانس أنفو" لم يحمل الجنسيّة الفرنسية، رغم أنّه هاجر إلى فرنسا شابًّا، فكأنّه أراد القول للفرنسيّين إنّني جئت لأعيش معكم لا لأذوب فيكم.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل رشيد طه.. راح المسافر وبقي صخبه الهجين
يمثّل رشيد الرّعيل الأوّل من المهاجرين الجزائريّين، بعد الاستقلال الوطنيّ. إذ كانت هجرته مع أسرته عام 1968. وهي سنة مفصليّة في المشهد الفرنسيّ. ثار فيها الطلبة وفرضوا واقعًا سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا جديدًا. وقبل أن يصبح هذا الواقع حقيقة في الميدان، عانى رشيد طه من واقع فرنسيّ يرفض المهاجر ويتعالى عليه، خاصّةً إذا كان جزائريًّا، سنواتٍ قليلةً فقط بعد الخروج الفرنسيّ من الجزائر، التّي ترسّخ في المخيال الفرنسيّ العام كونُها مقاطعةً فرنسيّةً.
عمل في المطاعم والمحالّ الشّعبيّة ليكسب لقمته. واختار الموسيقى والغناء طريقًا ليعبّر عن معاناة المهاجرين، فأسّس رفقة نخبة منهم فرقة سمّوها "بطاقة إقامة" إشارةً منهم إلى هاجس عدم الاستقرار، الذّي كان يحياه المهاجر المسلم في الفضاء الفرنسيّ، رغم أنّ قوانين الجمهوريّة الفرنسيّة تمنحه الحقّ في الاندماج.
وسعيًا منه إلى ممارسة هذا الحقّ في الاندماج على أساس من التّنوّع الثقافيّ، أدخل رشيد طه الرّوح العربيّة، خاصّة روح أغنية "الرّاي" إلى "الرّوك"، فأفرز فنًّا خاصًّا به. ثمّ تكرّست هذه الخصوصيّة بأن أدخل الرّقص على موسيقاه، وجمع بين المناخات العربيّة والغربيّة، خاصّةً في ألبومه "صنع في المدينةّ"، الذّي سجّله في باريس ولندن ومراكش عام 2000. ودخلت أغنية "برّة.. برّة" من الألبوم في فيلم "سقوط الصّقر الأسود" للمخرج ريدلي سكوت وبطولة جوش هارتنت عام 2001.
غير أنّ الحفل الذّي جمعه مع الشّابين خالد وفضيل في باريس عام 1999، وصدوره في ألبوم "1.2.3 شمس" منحه شهرةً وانتشارًا كبيرين، بصفته عميد الفنّانين المهاجرين إلى فرنسا، بعد استقلال الجزائر، إذ حقّق الحفل والألبوم معًا مبيعاتٍ خرافيّة.
يقول المغنّي إبراهيم حدرباش لـ"ألترا جزائر"، إنّ ثمّة أصواتًا أصيلة استطاعت أن تكرّس فنًّا يشتغل على روح الإنسان والمكان، "وهي بهذا لا تموت أبدًا. ولا يرتبط انتشار أغانيها ببقائها على قيد الحياة، بل ببقاء الهاجس الإنسانيّ والوجوديّ، الذّي اشتغلت عليه".
من هنا، يضيف حدرباش، لا يدهشني نجاح ألبوم "أنا أفريقيّ" في أيّامه الأولى، رغم أنّ صاحبه بات من نزلاء العالم الآخر. في مقابل اختفاء وجوه كانت مكرّسة، رغم بقائها على قيد الحياة. يختم: "رشيد طه نموذج في الوفاء لروح الفنّ".
إلى غاية وفاته يوم 12 أيلول/ سبتمبر عام 2018، أصدر رشيد طه 10 ألبومات أشهرها "ديوان" بجزئيه، و"تيكتوي" و"بونجور" وبعد أن أصدر ألبومه العاشر "زووم" عام 2013، تفرّغ لألبوم "أنا أفريقيّ"، إلّا أنّ عوامل تقنيّة حالت دون أن يرى النّور، قبل رحيله المفاجئ، فشكّل صدوره هذه الأيّام حدثًا فنّيًّا.
تغنّت أغنية "أنا أفريقي"، التّي حمل الألبوم عنوانها بالانتماء إلى الرّوح الأفريقية
تغنّت أغنية "أنا أفريقي"، التّي حمل الألبوم عنوانها بالانتماء إلى الرّوح الأفريقية وبرموزها في السّياسة والنّضال والأدب والفنّ، مثل نيلسون مانديلا، وبوب مارلي وكاتب ياسين وإيمي سيزير، وجاك دريدا الذي ولد في الجزائر، والكاهنة. وجمع الكليب وجوها نسائيّة ورجاليّة بالبشرتين البيضاء والسّمراء، في إشارة منه إلى التعدّد، الذّي تزخر به القارّة الأفريقيّة بشطريها الشّماليّ والجنوبيّ.
اقرأ/ي أيضًا: