11-أكتوبر-2022
باعة الألعاب النارية بحي باب عزون بالعاصمة (تصوير: بلال بن سالم/أ.ف.ب)

باعة الألعاب النارية بحي باب عزون بالعاصمة (تصوير: بلال بن سالم/أ.ف.ب)

لطالما ارتبطت ذاكرتي الحسية والبصرية بالمناسبات الدينية، كلما تعلق الأمر بصُور وأصوات التجمعات الأسرية التي كانت تحدث إبّان "المواسم"، فقد كانت عائلتي مثل أغلب العائلات الجزائرية، تهوى الاجتماع والتزاور وتشارك العادات، وتبدع في التسابق على طهو أشهى الأطباق والحلويات، خاصة في المناسبات الدينية والاجتماعية، مثل ذكرى المولد النبوي الشريف الذي نحتفل به منذ مئات السنين خلافا لعدة دول إسلامية تنأى عن الاحتفال به لاعتقادات واختلافات دينية بسيطة.

في مدينتي قسنطينة تحديدًا، شرق الجزائر، تُمارسُ طقوس خاصة جدًا للاحتفال بالمولد النبوي

يحتفى بالمولد النبوي إذن في الجزائر بشكل جدّي وواسع جدًا، وتختلف عادات الاحتفال به بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، لتصنع هذه الفرحة الفريدة فسيفساء جميلة تحكي الغنى الثقافي والعادات المتوارثة لدى الجزائريين.

خلال هذه الاحتفالات بمولد الأنام، يغدو الطبخ الذي يعد من أقوى أساليب التعبير عن الفرح، الامتنان، التضامن، المقاسمة والتشارك في بلدنا، ضربًا من الاعتزاز بالعبادات وبالاحتفال الديني، وهذا ما نلمسه جليا في هذه الذكرى تحديدا.

يتم التحضير لهذه المناسبة غالبًا أسبوعًا أو أكثر قبل ليلة المولد، حيث تعمل النساء على توفير مستلزمات الطبخ المختلفة لتحضير الأطباق التي لا تتغير أبدا في هذه المناسبة، وخلال ليلة المولد، تجد النساء الجزائريات يتسابقن إلى تقديم ألذ وأطيب الأكلات التقليدية التي تميز هذا الاحتفال، حيث يبدعن في تزيين أطباق "الطمينة"  أو " التڨنتة " التي تصنع من دقيق القمح المحمص والزبدة والعسل بأشكال هندسية متناسقة، ويخبزن "حنيونات" الخبز المزينة بالبيض المغلي لتوزيعها على الأطفال المبتهجين بألبستهم التقليدية.

تنهض النساء باكرًا جدًا لتحضير عجين التريدة أو الشخشوخة بالنسبة لسكان الشرق، والرشتة أو الكسكسي أو البركوكس لسكان الوسط والغرب والجنوب، مع اختلافات كثيرة في طرق التحضير والتوابل المستعملة ومراحل التقديم، لكن الشيء المشترك دائمًا، يكمن في طقوس التبادل والمقاسمة التي تحدث كثيرًا بين الجيران والعوائل والأحبة، حيث يتعشى الجميع معا على مائدة واحدة، ثم تأتي حصة الأطفال من الفرحة بعد العشاء.

وبما أنهم يُعَدُّون نكهة ذكرى المولد الحقيقية، فهم يملأون البيت بهجة بأغاني المديح التي تعلموها في المدرسة، ثم يتقاسمون المفرقعات التي ابتاعها لهم الأهل بأنواعها، ويشعلون الشموع و"أعواد النجوم"، كما تتسابق الفتيات منهن إلى وضع الحناء في أيديهن من طرف الجدات اللواتي يرددن الصلوات على النبي محمد بشكل متواصل ومتكرر، كما يفضلن ترديد قصيدة "البردة" التي تعلمنها في الكُتاب خلال الطفولة، لتقضي الفتيات أخيرًا ليلتهن وهن يقبضن بكل قواهن على قرص الحناء بين أحضان كبيرة البيت، بغية الحصول على أثر الحناء الأكثر حمرة وجمالًا بين أترابهن في الصباح.

 في صبيحة اليوم الموالي، تتجند النسوة لتحضير  فطائر "الغرايف" أو "البغرير" المدهونة بالزبدة والعسل، وفي بعض المناطق تحضرن ما يسمى "الشرشم" وهو طبق من جنين القمح المطبوخ، بغية إرسالها إلى الجيران والأقارب، تمامًا كما يُحتفى بالمولود الجديد في كل عائلة جزائرية.

في مدينتي قسنطينة تحديدًا، شرق الجزائر، تُمارسُ طقوس خاصة جدًا للاحتفال بالمولد النبوي، ولعلّ أكثرها انتشارًا بين العائلات يبدأ من حملات تنظيف البيوت وتعطيرها ببخور العنبر وتوزيع الشموع الملونة والطويلة التي تباع في حي السويقة وفي طاولات الرصيف عند مداخل الأحياء الشعبية، حيث توضع في كل غرف المنزل خلال ليلة المولد، لأن أمهاتنا عودننا على هذا الطقس وحذرننا كثيرا من ترك زوايا البيت مظلمة في هذه الليلة التي ولد فيها نور الخلق.

بغض النظر عن تقارب كل التحضيرات التي سبق مع مدن أخرى، احتفظت مدينة قسنطينة بخصوصية الاحتفال الذي كان يحدث في الزوايا العتيقة سابقًا، حيث كانت تقام التجمعات السنوية للمديح النبوي الذي تصاحبه حملات الصدقة للأطعمة والحلويات المحضرة في البيوت وتلك التي تباع في أزقة المدينة القديمة مثل حلوى "النوڨة" و"الزلابية" وخبز الدار، إضافة إلى إشعال الشموع والبخور لإضفاء بعض الروحانية لذلك المشهد الذي لم نعد نراه إلا قليلا في هذه الأيام.

 من جهة أخرى، تُذكرُ أيضًا حضرة  "الوصفان" الشبيهين بناس الديوان والڨناوة في الغرب، حيث يحتفلون بطقوسهم الخاصة بذكرى المولد النبوي، وأشهرهم دار بحري التي ما تزال تحتفظ بطابع بنائها الفريد وعاداتها الاحتفالية المميزة إلى يومنا هذا، إضافة إلى الحضرات العيساوية التي تحييها عدة فرق خاصة تتغنى بالنبي وخصاله وصفاته طيلة ليلة المولد في القاعات والمسارح وبعض البيوت القسنطينية.

من بين الإيجابيات الكثيرة التي نجدها في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في الجزائر، نلمس استماتة الأجيال المتعاقبة على المحافظة على الطقوس الاحتفالية بكل الطرق الممكنة، وهذا ما يمكنه ترسيخ  قيم التآزر والترابط المجتمعي والأسري داخل العوائل الجزائرية في مواجهة تقلبات الحياة الحديثة التي صارت تصنع فجوات كبيرة بين الأهالي لينصرف كل منهم إلى ذاته، ومن خلال هذا الاحتفال الديني الذي يخلد ذكرى ميلاد آخر الأنبياء، ينطلق الجميع إلى تطبيق أهم وصاياه للحفاظ قدر الإمكان على ذلك الرابط الذي يصل بين الأقارب والجيران، وحتى بين جيل وآخر، إضافة إلى الحفاظ على ملامح هوية جزائرية خالصة بكل قيمها وعاداتها وتقاليدها التي تعطي للفرد الجزائري شخصية فريدة تمثله أمام باقي شعوب العالم.

هكذا، منذ كنا صغارًا، وكما سبقنا أهلنا، أصرّينا كثيرًا أن نحتفي بالمولد النبوي رغم كل ما يتردد مؤخرًا من فتاوى تتنكر لذلك وغالبًا تذهب إلى تحريمه، حيث يتجه "المدخليون" أو من يتبعون ما يسمى بنهج السلف إلى التحذير من ممارسة هذه الطقوس الاحتفالية بكل ما فيها، ويقودون حملات كثيرة عبر الخطب ومواقع التواصل وصفحات يتابعها الآلاف، حيث يلجؤون رأسًا إلى تحريم كل نشاط عفوي يقام لإحياء هذه المناسبة.

لقد تربينا على الاحتفال بهذا المولد كل بطريقته، كما أن لهذه الليلة عبق خاص لا نستشعره إلا مرة في السنة بكل حواسنا، إنه عبق فريد، مزيج مغري يحيي فينا الكثير من الذكريات الطفولية الغابرة، وقت كنا نضع الشموع في أوعية المصبرات المعدنية ونجوب الشوارع ليلًا وكأننا نقود سياراتنا الخاصة، أو عندما كنا نصنع المفرقعة النحاسية عند الحداد، فكان زادها رؤوس بضعة أعواد ثقاب وضربة واحدة على الإسمنت لتُحدِث صوتًا مدويًا وأثر بارود أسود يشبع غرورنا الطفولي، ثم نعود إلى بيوتنا لنغرق في روائع العنبر و " الجاوي" والشمع الملون الذائب الذي نوزعه في كل زوايا غرف البيت بلا استثناء، حتى تبقى منيرة لا تنطفئ وتقاوم الظلمة، تمامًا، كما غُرِس فينا ذلك التصور الخيالي لنور النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

كل تلك الذكريات وأخرى كثيرة، حيث كان الرجال يضربون طلقات البارود صبيحة المولد احتفالًا والنساء ينظرن إليهم بافتخار واعتزاز بهذا الدين الذي يمارسون طقوس عباداته كما ألفوا من أجدادهم، قبل أن يبدأ عصر الفتاوى والتحريم ، تلاشت شيئًا فشيئًا وبقينا نقاوم بصعوبة بالغة لنحافظ على ما نستطيع ممارسته وتطبيقه بعيدًا عن التبعية التي غزتنا وغزت ثقافتنا.

بقينا نقاوم بصعوبة بالغة لنحافظ على ما نستطيع ممارسته وتطبيقه بعيدًا عن التبعية التي غزتنا وغزت ثقافتنا

ولعل هذه العادات التي تعد حميدة في معظمها هي ما يصنع منا ما نحن عليه اليوم، وقد وجب فعلًا الحفاظ على القليل الذي تبقى منها لعلنا نجد أنفسنا أخيرًا ولو عبر طقوس الاحتفال الديني الخاصة بنا حصرًا..

 

دلالات: