09-نوفمبر-2019

كاتب ياسين (تصوير: رينيه جيرو

عادت الذكرى الثلاثون لوفاة كاتب ياسين منذ أيّام، لتغوص بنّا مرة جديدة في الجدل المُثارِ حول هذا الكاتب (1929-1989) والذي لطالما كان محطّ اهتمام كبير في الجزائر وخارجها. رجل أربك الأوساط الأدبية هنا وهناك، وتمرّد على المألوف في سن صغيرة، عرف كيف يدوّن عنفوان الشباب المضطهد من خلال قصائد شعرية متمرّدة، وكتابات ومؤلّفات مسرحية عديدة، وآراء فكرية وسياسية فجرّها واقع ظالم. 

ناضل كاتب ياسين على عدة مستويات وفي عدة مراحل زمنية، وكان ينادي دائما "بِثَوْرَنَةِ الثورة" في فترة ما بعد الاستقلال.

رواية "نجمة" التي اعتبرها الكثير من المثقّفين والقرّاء على حدٍّ سواء، مُؤلَّفا عبقريًا كتبه كاتب في سن العشرين، وفتح الباب لأدب جزائري حداثي، انتقل بجيل كامل إلى مستوىً آخر اتسم بالجرأة والثورة، مدافعًا عن الحرية الفكرية والأدبية والإنسانية خاصّة.

اقرأ/ي أيضًا: فتح النور بن إبراهيم.. حين يمرض العرّاب

هذا الكاتب الذي لم يكن محبوسًا في اللغة الفرنسية بقدر ما كان يستعملها كـ"غنيمة حرب" بكل سلاسة لمخاطبة الآخر بشخصية جزائرية خالصة، كان صوت شعبٍ منهك وشباب ثائر، ورمزًا للتمرّد والكفاح ضدّ كلّ أوجه الظلم. كاتبٌ غير راضخ لأيّ قيود، استعمل أيضًا اللهجة الدارجة الجزائرية لكتابة نصوص مسرحية بداية من سنة 1970، ليخاطب كل فئات الشعب من خلال نضال فنيّ ملفت عبر مختلف المسارح والمساحات العُمّالية، بعد أن جاب أنحاء العالم وعاد إلى الجزائر باحثًا عن ذاته.

منذ سن السادسة عشر، ناضل كاتب واعتُقِل، ودافع عن قضية الوطن والحرّية، حارب الاستعمار الفرنسي بقلم واعٍ، وامتدّ نضاله إلى فترة ما بعد الاستقلال التي شهدت حركات تحرّرية وفكرية في الجزائر لمقاومة السياسات القمعية، والإيديولوجيات المتشدّدة. 

كاتب مثير للجدل

في هذا السياق، شارك الباحث سعيد هادف بمركز صوفيا بوهران، في نشاط ثقافي إحياء للذكرى الثلاثين لرحيل كاتب ياسين، حيث صرح لموقع "الترا جزائر" بأنه كان مدعوًا لتقديم ورقة عن الراحل، وتساءل: "من هو كاتب ياسين، بعيدًا عن الشيطنة وعن التقديس؟".

عقّب سعيد هادف بأنه لا جدال في أنّ كاتب ياسين هو أديب كرّس حياته للإبداع في الشعر والرواية والمسرح، ولا شكّ أنه مثقفٌ ملتزم، وضع موهبته في خدمة القيم التي آمن بها حبًا في شعبه ودفاعًا عن حرّيته وهويّته ضدّ الاستعمار والإمبريالية والتخلّف.

النضال في حياة كاتب

 تميّز كاتب ياسين بشخصية ثورية متشبّعة بالقيم التحرّرية، ناضل بكلّ قواه من أجل الاستقلال، سواءً في الحزب الشعبي الجزائري أو في الحزب الشيوعي، وكان يجند نفسه دائمًا للدفاع عن المضطهدين في الأرض، يختبر معاناتهم ويتقصّى عن حروبهم وكفاحهم، وقد قال في ذلك: "لنصل إلى أفق العالم، علينا أن نتحدّث عن فلسطين، أن نُشير إلى فييتنام، مرورًا بالمغرب الكبير".

هاجس الهوية والأيدولوجيا

ارتبط كاتب ياسين، كما قال سعيد هادف، بالوسط السياسي الشيوعي وتشبّع بالقيم الشيوعية ضدّ القيم الليبيرالية، والهويّة الأمازيغية مقابل الهويّة العربية الإسلامية.

غير أن المعطيات البيبلوغرافية حسب المتحدّث، تؤكّد أن هذا الكاتب الشاب كتب شعرًا تضامن فيه مع القضايا العربية، كما قدم محاضرة حول الأمير عبد القادر، "فما الذي جعله يبتعد كثيرًا عن النبع، تنكرًا لا تحررًا؟"، تساءل سعيد هادف.

يُضيف المتحدّث أن الجزائر كانت منذ منتصف القرن العشرين في مهبّ كل الرياح الأيديولوجية: الشيوعية، البعثية، الوهابية، الإخوانية وبعض نسائم الحداثة. انحدر المثّقفون الجزائريون إمّا من الزوايا الصوفية أو من جمعية العلماء المسلمين أو من المدرسة الفرنسية، وفي بعض الحالات من هذه الأوساط الثلاثة. غير أن المثقّف الجزائري سواءً كان محافظًا أو تقدميًا، من شرق الجزائر أو من غربها، من القبائل أو من الجنوب، ظلّ عرضة للأيديولوجيات الوافدة.

وحسب سعيد هادف، هناك من تنكّر لوسطه الصوفي وأصبح وهابيًا أو إخوانيًا، وهناك من أصبح بعثيًا أو ناصريًا، وهناك من أصبح شيوعيًا أو ليبيراليا، باختصار شديد، يقول المتحدّث، "ظلّ الجزائري تحت تأثير الآخر المتعدّد دون أن يتلمس طريق خلاصه الهويّاتي، وظلّ يعاني من تمثل مأساوي لهويته. لقد أخفق في رؤية نفسه بشكلٍ جيّد، وأخفق في أن يعرّف نفسه لنفسه وللآخرين، لقد أخفق في أن يكون جزائريًا".

كان القاسم المشترك بين أغلب المثقفين الجزائريين كما أشار الباحث، كراهيتهم لفرنسا خاصة وللغرب عمومًا، وهو عامل سيكولوجي حرمهم من التواصل الخلاق مع محيطهم الغربي، بسبب إرث الاستعمار. في غمار هذا الطقس الأيديولوجي، عاش كاتب ياسين ولم يشذ عن غيره، كما أكد سعيد هادف، أنّه مثلما بقي مثقفو العروبة أسرى الذاكرة العربية، بقي ياسين أسير الذاكرة الأمازيغية، و"كلا الطرفين لم يخرجا من الذاكرة إلى التاريخ".

أدب كاتب بعيون جاكلين آرنو 

من جهته قال الباحث من جامعة السوربون جهاد شارف، إن كاتب ياسين عايش محنة الشهرة في حياته، وكان من العسير التموضع بين التبجيل واللعنة. لمّا كتب رواية "نجمة" لم يكن يبلغ من العمر سوى عشرين عامًا، حيث لم يكن النص قد اكتمل كتابةً ولا هو اكتمل قراءةً، بل كان السرد حسب جهاد شارف، يضمّ إليه ما تناثر من النصوص الحواشي/ الهوامش (المضلّع النجمي، أشعار، قصص ...الخ)، تلك السرديات المعلّقة على نجمة مترنّحة تأبى الأفول. 

يعود الفضل كما أضاف المتحدّث، إلى جاكلين آرنو التي اشتغلت طويلًا على نصوص كاتب، من خلال تجميعها وتحديد تواريخها والتغييرات التي طرأت عليها، يضيف جهاد شارف، إن آرنو ظلّت لأكثر من عشر سنوات ترافق كتابات كاتب عن كثب، وباهتمام الباحثة والمختصّة في الأدب المغاربي والجزائري تحديدًا، تمكّنت من إعادة نسج تلك النصوص الشذرات وتركيب المفاصل الروائية ليصبح النسق السردي منسجمًا.

 نجمة.. ظِلّ كاتب ياسين

لقد أحدثت رواية "نجمة" كما قال جهاد شارف، استشكالًا حقيقيًا على دور النشر سنة 1956، ممّا اضطرّهم كما تقول آرنو، لمراسلة كاتب ياسين وطلب التوضيحات إزاء الضبابية التي تراود النصّ على الغموض.

 في العشرين من العمر، ينطلق كاتب ياسين حسب تصريح الباحث من المجهول ليفجّر الزمن والمكان وانمحاء المعالم على صخرة الأساطير الأولى، ويرتمي في تجربة الحبّ، تقول آرنو: "ثمّة ما قبل نجمة وما بعدها، ولم يعد بالإمكان للسرد المغاربي عمومًا أن ينكتب إلا من خلال أطياف كاتب ياسين".

استنطاق الوعي الشعبي

على هذا النحو، يخبرنا جهاد شارف، بأننا يُمكن أن نفهم أن ثمّة جينيالوجيا الرواية الجزائرية، بل ثمّة نصٌّ أسّس للفضاء السردي الجزائري من خلال الوعي باستراتيجية اشتغال المتوارث من المحكي/ المسموع داخل تلافيف الكتابة، أي استنطاق ذاكرة الشعب الجزائري (بل وأيضًا الشعب الفيتنامي والأفريقي وكل الشعوب الثائرة) في مسعاه نحو الوعي باللحظة التاريخية للتخلّص من الاستلاب الكولونيالي للبنية الذهنية. 

سلاح اللغة العامية 

في تصريح له مع الكاتب جغلول عبد القادر سنة 1987 في باريس، قال كاتب ياسين: "عندما كنت أكتب الروايات أو الشعر، كنت أشعر بالإحباط، لأنّني لم أكن أصل إلا للعشرات، لكنني استطعت عبر المسرح، بلوغ مليون مشاهد بعد خمس سنوات.. أنا ضدّ فكرة التوغّل في الجزائر من خلال اللغة العربية الكلاسيكية، لأنها ليست لغة الشعب. أرغب في امتلاك القدرة على توجيه الكلام إلى كلّ الشعب، حتى ولو كان غير متعلمٍ، أودّ لو أستطيع الوصول إلى الجمهور الكبير، وليس فقط إلى الشباب، لأن الجمهور الأكبر يضم الأميين.. يجب إحداث ثورة ثقافية حقيقية".

يضيف جهاد شارف هنا، أن كاتب ياسين كان قد شارك في مظاهرات 8 ماي 1945 حيث قامت السلطات الفرنسية يومها باعتقاله وسجنه، بعدها قرّر التخلّي عن الدراسة وغادر ثانوية آلبرتيني بمدينة سطيف (محمد قيرواني حاليًا)، لكن ثقافته الأدبية العميقة، ومعرفته بالتراث الشعبي الشفاهي، مكّنته من شقّ مجراه الروائي من خلال زحزحة بنية اللغة الفرنسية من اللوغوس الأوروبي وترويضها، لتغدو قادرة على رسم الواقع الجزائري ومآلاته. 

هنا تكمن عبقريّة كاتب الذي أرّقته القضايا والظواهر التي ستفرزها مرحلة ما بعد الاستعمار، لذا قرّر في فترة الاستقلال كتابة المسرح باللغة الدارجة، إذ كانت هي المعوّل الأساسي في التواصل المباشر والفعّال مع الجزائري حسب جهاد شارف.

المفكر الحداثي

الصحافي عدنان حاج موري، شارك في إثراء ندوة مكتبة صوفيا في مركز التوثيق الاقتصادي والاجتماعي بوهران غربي البلاد، بمداخلة تحت عنوان "كاتب ياسين، مفكّر الحداثة"، حيث حضر أيضًا عدد من الممثلين والفنانين كرجاء عطاري وسمير زموري وكمال أدركيشي الذين قدموا بضع مسرحيات للراحل منها "الجثة المطوقة "1959.

يقول عدنان حاج موري في حديث إلى "الترا جزائر" إن إحياء ذكرى كاتب ياسين يتطلّب تقييمًا لمسار ما كتبه. هذا الكاتب، المؤلّف المسرحي وأبو "نجمة" الذي لم يتوقّف عن تشكيلنا، ينحو فكره منحىً تقدّميا، وحسب ما قاله الصحفي، يصبح من الضروري هنا التفكير في مفهوم التحرّر داخل وسط محكوم بالقيود. يستطرد المتحدّث، أنه من المستحبّ التذكير بالتزام كاتب ياسين الذي كان مرتكزًا على ثقافة التأمل من خلال تفجير المُسَلَّمات والتقليد الديموقراطي الذي يجامل الضحية في مسار تحديد الهوّية.

كاتب ياسين: "لنصل إلى أفق العالم، علينا أن نتحدّث عن فلسطين، أن نُشير إلى فييتنام، مرورًا بالمغرب الكبير"

عن "الحداثة السائلة"، قال عدنان حاج موري، إنها الوصفة السحرية التي يدعو إليها عدد كبير من الكتاب، وهي لا تقوم سوى بإحداث تصدّع في المجال التأملي، ومن هنا يصبح التصوّر أداة لذلك، ويضيف في السياق نفسه، "أن هذه الشهادة تستدعي في أذهاننا حقيقة أن طموح الكاتب الأدبي، أو حتى الاجتماعي يبقى على الدوام طموحًا غير تقليدي متجاوزًا الخطوط الحمراء".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حوار | نصيرة محمدي: ولّد الحراك الشعبي سلوكًا تحرريًا

حوار | محمد بن جبّار: الحراك الجزائري تجاوز المثقف والنخبة