في الجزائر، يمارس أربعون ألف حرفي، مهنة صناعة الذهب والمجوهرات والمتاجرة فيهما، سواءً في محلات مرخصة النشاط، أو في ورشات لا يزال أغلبها مجهولًا، ما يطرح بالضرورة، علامات استفهام حول هذا "الكارتل" الذي يعد قوة مالية ضاربة، مرتبطة اجتماعيًا، بكثير من النساء اللواتي يشكّل لهنّ المعدن الأصفر قيمة مادية ومعنوية، كما يعد لدى عائلات كثيرة بنك ثراء مدّخر، فهو معدن اتزداد قيمته المالية من يوم إلى آخر، حيث يقدر ثمنه في الوقت الراهن بـ 12500 دج للغرام الواحد.
يعرف البعض أن حجم الاقتصاد الموازي هو قرابة 50 مليار دولار، لكن لا أحد يعرف حجم حصص الذهب التي تتداول في السوق الموازية
أطنان في الأسبوع
لا تبدو أرقام هذا "الكارتل" واضحة ومعلومة، ففي عتمة الورش السرية المنتشرة عبر الولايات الجزائرية، يجثم غول التهرب الضريبي الذي يكلف خزينة الدولة، أموالًا كبيرة تقبع خارج نطاق المحاسبة، والسبب أنها خارج مجال المراقبة.
في هذا السياق يقول السيد عيسى أمغشوش رئيس المنظمة الجزائرية للذهب والمجوهرات، المنتشرة عبر 41 ولاية جزائرية في حديث إلى "الترا جزائر"، إن المشكلة الجوهرية، هي أن نصف تعداد ممارسي صنعة الذهب ينشطون سريًا، فهناك قرابة عشرون ألفًا من أصل أربعين ألفًا ينشطون بطريقة سرية، لذا يحرص المشروع الذي أعده خبراؤنا، بالأساس إلى معالجة مشكلة النشاط غير القانوني من جذوره العميقة، أي بتفكيك الأسباب التي تجعل هؤلاء يفضلون الظلّ على الشفافية".
مؤكدًا في سياق متصل: "مبدأنا هو الاحتواء المزدوج، أي تحقيق مصلحة مشتركة بين الممارسين والدولة، وفق صيغة رابح رابح. وهذا أجدى على أية حال من الردع، لأن الخسائر الجانبية هائلة للطرفين معًا".
تسوية المخزون
نظريًا، يستفيد كل حرفيٍّ من واحد كيلوغرام ذهب، أما الصانع فيستفيد من 50 كلغ، أو أكثر بحسب حجم النشاط، سنويًا. بيد أن الواقع الميداني، خلاف ذلك تمامًا، مثلما يلخصه تاجر الذهب "ك.ب"، في حديث إلى "الترا جزائر"، إذ أن "أول أشكال مسبب لفوضى القطاع، هو انعدام التموين أو ندرته، و طبعًا يدفع هذا الصناع و التجار والحرفيين دفعًا، نحو السوق السوداء عبر شراء الذهب المستعمل من الناس، وبالتالي فإن حيازة تلك المادة غير الخاضعة للفوترة والدمغة غالبًا ما تنتهي بمشكلات قضائية وضرائبية عويصة".
وبالتبعية يستطرد المتحدث: "كل المشكلات تبدأ من هنا، لذا فإن معالجة الاختلال والفوضى والتهرب الضريبي والنشاطات الطفيلية الأخرى كالغش والتزوير تبدأ من نقطة توفير المادة ولا تنتهي سوى بإيجاد صيغة متفق حولها بين المهنيين ومصالح الدولة".
يعرف البعض أن حجم الاقتصاد الموازي هو قرابة 50 مليار دولار، لكن لا أحد يعرف حجم حصص الذهب التي تتداول في السوق الموازية، ولهذا السبب يدعو ملف الإصلاح الهيكلي الذي اقترحته المنظمة الجزائرية للذهب والمجوهرات، على وزارتي المالية والتجارة، ثم وزارة الطاقة والمناجم، إلى بند جوهري هو: " ضرورة تسوية وضعية المخزون والمعروضات غير المدموغة خلال آجال مناسبة للتسوية دون متابعات قضائية أو جبائية".
تعني كلمة المخزون والمعروضات غير المدموغة، حجم الذهب المتداول بين الصناع في السوق الموازية، دون الخضوع للمراقبة أو للضريبة، ولمعرفة حجمه سألنا رئيس المنظمة عيسى أمغشوش فأجاب "الترا جزائر" أنه "من الصعب معرفة الرقم الدقيق، باعتبار أن كثيرًا من الورش ذات طابع سري، فبعضها يدار في البيوت والمرائب، لكن بحساب عدد الممارسين للمهنة فهو يقدر بالأطنان أسبوعيًا. لذا يتوجب علينا أن ندمج هذه الأطنان في المنظومة القانونية، تحصيلًا للعائدات الكبيرة لصالح الخزينة العمومية".
السجل البيومتري
يشكل تهرب بعض الصناع والحرفيين من العمل تحت إطار الشرعية، بحسب كثيرين، نتيجة لوضعية ما، لا سببًا فيها، إذ يقول تاجر الذهب "س.ب" في حديث إلى "الترا جزائر"، إن " كثيرين لا تساعدهم القوانين الحالية، من المعروف أن قاعدة العمل بالنسبة للذهب المصنع، تعتمد على تصنيع يقدر بـ 50 مليون إلى 70 مليون سنتيم للكيلوغرام الواحد، وفي حالة ضبطها من قبل مصالح الرقابة، فإن النظام المالي، يطبق حساب الضرائب طبقًا للسعر الحالي للغرام المقدر بـ 12500 دينار جزائري للغرام، لذا فإن النسبة التي تقتطع تطبق على مبلغ 1.2 مليار سنتيم، أي قرابة 250 مليون سنتيم، لا على 50 مليون سنتيم مثلما يقتضي العرف العملي السائد بين العارض والصانع، وطبعًا هذه الوضعية تفاقم النشاط السري، إذ أن كل تاجر يرغب في جني ربح يسير أو كبير، لا في تكبد خسائر أكبر".
ويعاضده زميله ع. ز: " الأمر يشبه إلى حد ما يقع في سوق العقار، لا أحد يصرح بالسعر الحقيقي للشراء أو التأجير، تفاديًا لدفع ضرائب أكبر".
وحلًا لهذا الإشكال يوضح رئيس المنظمة الجزائرية للذهب والمجوهرات معقبًا: "سأجيب هؤلاء بما اقترحناه في ورقة العمل المطروحة على السلطات، حيث يمكن مراقبة كافة العمليات عبر ملء استمارة بين البائع والشاري، توضح إجراء العملية بكافة المعلومات الواجب توفرها في الوثيقة. يستفيد الصانع من نسبة 5 % فيما تقتطع الدولة ضريبة مقدرة بـ 10 %، وطبعًا يسمح هذا الأمر في إضفاء الشرعية التي تدمج هؤلاء في العمل القانوني من جهة، كما يساهم في رفع عائدات الدولة من الضرائب، من جهة أخرى".
و في استنتاج لما تقدم يضيف المتحدث: "بحسب دراسة لنا ستساهم هذه الإجراءات، برفع المداخيل بنسبة تتراوح من ثمانية إلى عشرة أضعاف من حجم المداخيل الحالية"، و استفسارًا عن الرقم الممكن تحصيله يجزم عيسى أمغشوش: "يمكن تحقيق رقم يقارب الألف مليار سنتيم، وربما أكثر، هذا في مجال الذهب المصنع و قد يقابله رقم مماثل في مجال المتاجرة، و بالمحصلة هناك حجم هائل من الذهب المتداول، و بالتالي ثمة مداخيل هائلة من السهل الوصول إليها في حال تبني المشروع الذي تقدمنا به لوزارة المالية، وتحديد لمديرية الضرائب، و وزارة التجارة".
يواجه سوق المعادن النفيسة بالجزائر إشكالية حقيقية هي تداول كثير من الذهب غير الممعيّر، من صنف 14 و16 كارا، فيما العيار المقنن هو 18 دون غيره، لذلك يمكن لإعادة الجرد وتسوية المخزون ودمغه في حل هذا التنافي مع القانون، و الواقع، بواسطة المطابقة لكافة الذهب المتداول والمستعمل مع النصوص المالية والجبائية المنظمة للقطاع، فيما يقترح آخرون تنويع المعايير كي يتسنى لكل مواطن أو امرأة اقتناء ذهب بحسب قدرته المالية، إذ يقول الحرفي، "ك.ب" لـ "الترا جزائر" إنه "في تركيا وإيطاليا هناك معايير متنوعة من 9 إلى 14 إلى 16 و18 و24 كارا، وكل بثمنه المتطابق مع درجة النقاوة. بهذه الطريقة يمكن لكل زوج اقتناء ذهب يحقّق القيمة المعنوية ويكون في متناول القدرة الشرائية".
أما فيما يتعلق بالمراقبة، لم تنفك المنظمة على حد تعبير رئيسها عن المطالبة بـ: "استحداث سجل بيومتري يمكن من خلاله التعرف على متعاملي قطاع الذهب خلال الحواجز أو خرجات المراقبة أو التفتيش الفجائي، تمهيدًا للرقمنة التي لا مفر منها".
مناجم للخواص
طرحت المنظمة الجزائرية فكرة ثورية مكملة لتسوية المخزون هي العمل بمبدأ الفوترة، بمعنى إقرار العمل بوثيقة الاستمارة الواجبة بين الشاري والبائع وتحت إشراف وزارة التجارة وبالتنسيق مع مصالح الشرطة، ما يعفي الكثير من الملاحقات القضائية والجزائية، ففي العادة يعتبر القانون المعمول به و الخاص بالضرائب غير المباشرة، و هو قانون جرى ترجمته عن القوانين الفرنسية خلال مرحلة التصحيح الثوري، في الستينيات، ليحمل تأويلات بعدة أوجه، فهو يعتبر كل عملية شراء من شخص غير معروف بمثابة "سرقة"، و بما أن جل الذهب المتداول لعائلات و خواص غير معروف، يغدو الأمر دورانًا في حلقة مفرغة، أو بحثًا عن جذور الضباب، و لا حل لهذا سوى الفوترة التي تستوجب دفع رسم محدد مقابل كل عملية صنع أو بيع.
خلال اللقاء الأخير، طرحت مبادرة ثورية جديدة، لإنهاء الأزمة من الجذور، أو كما يقول المثل الشعبي "ضربة فأس خير من عشرة بالقادوم"، حيث يوضح رئيس المنظمة الجزائرية للذهب والمجوهرات: "طرحنا مبادرة على وزير الطاقة والمناجم السيد محمد عرقاب وقد أبدى تجاوبًا كبيرًا مع الفكرة التي قد تنهي كثيرًا من الإشكالات المرتبطة بعالم المعدن الأصفر، وتتجلى في لإنشاء شركة مساهمة ذات اكتتاب عام وتشمل الصناع والتجار والحرفيين، لتتولى على عاتقها استغلال المنجم. يسير هذه الشركة مؤسّسون يقومون ببيع أسهم لصناع وتجار وحرفيي القطاع، وطبعًا سيوفر استخراج مادة أولية ستكون في صالح هؤلاء جميعًا، وحتما ستكون الكميات المستخرجة والمستخدمة في إطار قانوني شفاف".
أجهزة ومخابر
علاوة على ذلك تفكر السلطات الجزائرية منذ فترة ليست بالقصيرة، في توسيع نطاق التحاليل المخبرية للكشف عن المعادن المغشوشة وغير المتطابقة مع المعيار المعتمد، عبر تعميم استعمال أجهزة الكشف بدل استعمال الأحماض التقليدية.
وبخصوص هذه النقطة يضيف رئيس المنظمة لـ "الترا جزائر"، أنه طبعًا يمكن لهذه الإجراءات القضاء على مظاهر الغش والتدليس الذي يعود في الأصل لدخلاء على القطاع همهم الربح السريع على حساب المهنة والمواطنين. كما طالبنا بالمضي في استحداث مخابر تحاليل كيمائية جهوية مع الجامعات لتعيير الذهب المستعمل والمتداول وتطهير القطاع من الذهب المغشوش أو غير المتطابق مع المعايير بعد التوافق مع مقترحات الإصلاح الهيكلي".
تفكر السلطات الجزائرية منذ فترة ليست بالقصيرة، في توسيع نطاق التحاليل المخبرية للكشف عن المعادن المغشوشة وغير المتطابقة مع المعيار المعتمد
واستجلاء لمعالم القطاع مستقبلًا، يشدد رئيس المنظمة الجزائرية للذهب والمجوهرات على أن كارتل الذهب يمكنه أن يلعب دورًا رياديًا في المجال الاقتصادي و المالي، حيث يختم متحمسًا: "يمكن الجزم بأن الجزائر و في حال إقرار هذه الإصلاحات الهيكلية، التي ستكون محل ورش عمل مشتركة مع وزارات المالية و التجارة والمناجم والصناعات التقليدية، ستصبح أول بلد عربي في مجال صناعة الذهب، وسنشاهد ذلك في الأشهر المقبلة على شاشات التلفزيون، كما سيسمح ذلك بتطور المصوغ الجزائري، وهذا أمر تجلت معالمه في المعرض المنظم بين تركيا والمنظمة الجزائرية بالعاصمة، حيث نافست المنتجات الوطنية لقطاع المعادن النفيسة السلع التركية والإيطالية، من حيث الجودة والتصميم واللمعان".