كعادته يجول الشيخ عمار في الحي كل صباح، وأحيانًا والناس نيام، يقوم بسقي بضع شجيرات مترامية الأطراف على مستوى الرصيف المقابل لبيته، في خطوات تعوّد عليها منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، تمنحه التفاؤل والفرح، كما كسب احترام وتقدير جميع الجيران وكل من عرفه.
يتراجع استخدام هذه الأوصاف والألقاب كثيرًا في المجتمعات المدنية المتنوعة من حيث الأنساب والانتماءات القبلية والجماعات
هذا الرجل الذي يلقب باسم "الشيخ" وهو لقب كثيرًا ما يُستعمل في الشارع الجزائري تقديرًا لكبار السنّ واحتراما لمكانتهم الاجتماعية في البيئة المحيطة بهم.
يتراجع استخدام هذه الأوصاف والألقاب كثيرًا في المجتمعات المدنية المتنوعة من حيث الأنساب والانتماءات القبلية والجماعات، وعدم وجود روابط قرابة بينها، وظهور أجيال جديدة لم تنشأ على مثل هذه التقاليد والعادات.
يتحسّر الشيخ عمار لانحسار بعض القيم والعادات "الإيجابية" كانت في زمن مضى، ويقول لـ "الترا جزائر"، إنه لم يكن يعلم أنه سيأتي اليوم الذي تغيب فيه بعض السلوكيات في "زمن كان صوته يجلجل في الشارع قبل وصوله للبيت، بل كان لوجوده في الحي في حدّ ذاته قيمة، وهو أهم مشهد يتشبث به كل من عرفوه، إذ يخافه الصغار والشباب ويستشيره أغلب المحيطين به، بل ويعطي له الكثيرون "القدر العالي"، على حدّ قوله.
ولو أنه ما زال يحظى بهذه المعاملة الخاصّة في محيطه، إلا أن كبير العائلة استقال من مسؤولياتهِ ومهامه، لأسبابٍ كثيرةٍ وعوامل ترجمتها تحوّلات اجتماعية واقتصادية، تمحي شيئًا فشيئًا قيمة " الكبير" ورمزيته.
كبير العائلة
في إحدى القرى الجزائرية هناك مثل شعبي يقول: "كل واحد يسْتْحِي على كْبِيرُو"، أي أنه كل شخص يضع قيمة للكبير في عائلته ويخجل من أن يتجاوز حدوده احترامًا لذلك الكبير، كما أن هناك مثل شعبي أيضًا يقول:" كل كْبِيرْ و قَدْرُو"، أي لكل شخص كبير في السنّ تقدير خاص، وغيرها من الأمثال التي مازالت تحافظ على مكانة الموروث الشعبي الجزائري، وكثير منها ما يحمل رمزية التقدير والاحترام في الوسط الاجتماعي، لكنها تعرف انحسارًا مع تراجع ملحوظ في مستوى هذه القيمة التي لازال يمثلها في بعض المناطق، كبار السن في أوساطهم سواءً العائلية أو الاجتماعية في الحي بين الجيران وفي المنطقة ككل.
مكانة اجتماعية
هل بقي للكبير في العائلة الجزائرية مكانة؟ سؤال مفاجئ عرجنا على طرحه على فئات مختلفة من المجتمع، مع بروز ظواهر اجتماعية على سطح يوميات الجزائريين، لها علاقة بفقدان ذلك الشخص الكبير سواءً في البيت أوفي الشارع وفي الحي أيضا وفي البيئة المحيطة بشكل عام.
هذه الأسئلة، لها صلة بفقدان هذه الحلقة المهمة في العائلة أو على مستوى الحي، أو البيئة المحيطة، فحلقة "الكبير" لها أهمية تُعنى بانتباهٍ شديدٍ من قبل كثيرين، في وقت مست عدة تحولات الأسرة الجزائرية.
من هو الكبير؟ هل هو الجد أم الأب أم الأخ الأكبر؟ فالإجابة هنا معقدة جدًا وعميقة في آن واحد، إذ من الملاحظ جدًا أن الأسرة الجزائرية في حالة انتقال أو وضعية انتقالية من حيث البناء والتشكل بصيغ جديدة والوظائف أيضًا، بحسب أستاذ علم الاجتماع الأسري فريد بلحي من جامعة الجزائر، إذ تغير شكلها أولًا من أسرة ممتدة قوامها الجد والجدة والأبناء والأحفاد وتوزيعهم الجماعي بعد زواج الأبناء، إلى أسرة نووية تتشكّل من الزوج والزوجة والأبناء فقط.
ثانيًا، فالأسرة تغيرت من حيث الخصائص المميزة بوصفها أسرة استهلاكية أكثر منها إنتاجية، كما أضاف الأستاذ بلحي في تصريح لـ "الترا جزائر" أنها حافظت قليلًا على السلطة المطلقة للأب والدفاع المستميت عن القيم الموروثة، فضلًا عن القليل من روح العائلة التقليدية.
ومن خلال ما تقدّم؛ فالأسرة تحمل مكوّنات الأسرة النواة، وفي الوقت نفسه تحمل مكونات الأسرة أو العائلة التقليدية، إذ غالبًا ما ينفصل الأبناء بعد زواجهم عن المسكن العائلي الذي نشأوا فيه دون أن تنقطع الصلة نهائيًا بجماعة الأهل والأقارب.
رمزية "الكبير" أو "كبير العائلة" بدأت تتقلص شيئًا فشيئًا، ليس لأنها غير موجودة أو أنه كشخص بلا قيمة، ولكن لأنها على حد تعبير أستاذة علم النفس كريمة سماتي، تنسجم مع "نمو خصائص الشعور بالفردانية على حساب الشعور بالانتماء والتكتل الذي يربط الوحدة العائلية".
وأضافت أن هناك عوامل تتداخل في هذا النمط الجديد أو ما يسمى بتغييب "الكبير" في يومياتنا وضعف سيطرته على زمام أمور العائلة، إذ انعكس التعليم على تفاعل الفرد مع قضاياه، فوجد المتعلمون أنفسهم قادرون على التعبير عن طموحاتهم بحرية بعدما خفتت الرقابة الاجتماعية التي تتمثل في شخص " كبير العائلة".
انفصال الفرد عن المجموعة، يرجع بحسب الأستاذة سماتي، إلى الانفصال المالي والاستقلال المادي والاقتصادي عن العائلة، وعدم قبول تدخل من طرف آخر وبروز سلوكات جديدة، "تتفادى التأثير والتصادم مع تلك الرمزية".
أستاذة علم النفس لـ "الترا جزائر": انعكس التعليم على تفاعل الفرد مع قضاياه،فوجد المتعلمون أنفسهم قادرون على التعبير عن طموحاتهم بحرية بعدما خفتت الرقابة الاجتماعية
أدوار هامة
مع تقدم الإنسان في العمر تقلّ أدوار الكبار، ثم تخفت شيئًا فشيئًا، رغم أن بعضها لا يكلف الجهد البدني، بل يحتاج إلى وجودهم في محيط العائلة، في صورة يعتقد البعض أنها "رمزية ونمطية تعودوا عليها"، غير أن الظروف جعلتهم يرمون المنشفة ويستقيلون “استقالة مفروضة"، خصوصًا أمام انتشار واسع لوسائل الترفيه التي تفصل بين أفراد العائلة الواحدة، وبات فيها الفرد في عالم غير عالم الآخر وفي ظروف تختلف كثيرًا حدّ التناقض حينًا وحدّ التمايز أحيانًا كثيرة، حتى وإن كانوا في المكان نفسه وفي البيئة ذاتها.