13-أغسطس-2024
(الصورة: الترا جزائر) عليوش

(الصورة: الترا جزائر) عليوش

في المضائق الحجرية البديعة التي تقع بين الجبل وشواطئ ستورة حتى شاطئ الكاريار و وادي الأسود بولاية سكيكدة شرق البلاد، يتقاطر الناس طلبا للراحة، لكن الشاب حمزة علِيوَش (35 سنة، متزوج، وأب لثلاثة أطفال) لا يأتي من أجل المتعة، بل لبيع البيتزا المربعة، أو "لابيتس" كما تسمى اختصارًا.

يدير  عليوش ظهره للمناظر البانورامية الخلابة التي لا تعنيه في وقت العمل لافتًا أسماع المارة والمصطافين بعبارات: "بيتزا العالمية وزيد شوية"

لذا تراه يدير ظهره للمناظر البانورامية الخلابة التي لا تعنيه في وقت العمل، منكبًا على نصب طاولته البسيطة، لافتًا أسماع المارة والمصطافين بعبارات: " بيتزا العالمية وزيد شوية"، أو بطريقة "سنكوشية" ساخرة: "بيتزا بالحار وموت في الدار"، وهي طريقته المستلفة لجلب الزبائن، الذين لا يترددون في تذوق قطعه المعروضة، بـ 50 دينارًا، و 70 دج، فيما تفضل العائلات كثيرة العدد اقتناء قرص  250 دج.

الحار والمِقشار

يخبئ وجهه الذي حمّرته الشمس في مترين مربعين من الظلّ، تحت شمسية متكسرة، شد وثاقها بحبلين مربوطين في عمودي إنارة، قبل أن يقسم قطع قرصة البيتزا بـ "المقشار"، ويخلط بملعقة سطلًا بلاستيكيًا مملوءًا بطحين الهريسة الحارة.

عليوش

قد تظن لأول وهلة أن صاحب هذه القامة المربوعة والوجه المتحفز قادم من بلدة ستورة، أو من ريف بني ولبان أو مزارع الحروش، فيفاجئك ضاحكًا: " أنا من حي بن شرقي في مدينة قسنطينة، أقطع كل يوم المسافة الفاصلة بين الولايتين، لأستقر في طنف شاطئ ميرامار، من أجل بيع البيتزا للمصطافين والزوار".

ويستطرد: "لكي أقوم برحلة الرزق تلك أستقل سيارتي وهي من نوع رونو 4 قديمة، لأقطع قرابة مائتي كيلومتر يوميًا. أعمل ضمن فريق من ثلاثة أشخاص، أحدهم يعرض سلعته وراء موقف السيارات، في بلدة ستورة، فيما يجوب الثاني الشواطئ حاملًا معه طبقًا كبيرًا. أما حينما يجن الليل، فنعد الحسبة لنقتسم غلة عرقنا اليومي، ويختلف المدخول بحسب الظروف، ما بين أيام سعد وأخرى للنحس، والدنيا دوّارة مثل العجلة الروسية والرزق قسمة ونصيب".

عليوش

الفُرن والطاحونة

انغمس حمزة في سوق العمل مبكرًا، لذا يبدو أنه مر من سن الطفولة إلى الرجولة مباشرة، مستلهمًا من تجربة يتمه الشيء الكثير، فيقول: "عندما تجد نفسك يتيمًا بلا سند، فعليك أن تهجر منطقة الراحة لأنها غير موجودة أصلًا، و لذلك بدأت العمل في سن السابعة عشرة، بعدما توقف بي قطار الدراسة باكرًا في المرحلة التاسعة أساسي"

يستذكر ماضيه ليواصل: "بدأت العمل في فرن مخبزة، ثم سرعان ما أغلقتها لتكبدي خسائر جمة، و السبب أني لم أكن أمتلك سجلًا تجاريًا، فيدفعني ذلك لشراء الفرينة من السوق السوداء بأسعار فاحشة سنوات الندرة، ويوم تيقنت أني أبيع الخبزة الواحدة بـ8 دنانير فيما تكلفني 14 دينار، شطبت المحل نهائيًا حتى لا تطحنني طاحونة الأيام في ذلك الفرن المفلس، و قررت أن أتفرغ لصناعة البيتزا".

عليوش

أسرار الصنعة

انغمس حمزة في عمله الجديد منذ عدة سنوات، ونظرًا لإجادته الطهي فقد كان يوزعها بأسواق قسنطينة وفي ولاية ميلة المجاورة، لقد بلغ في أيام حد استهلاك ما بين 6 إلى 7 أكياس من مادة الفرينة، حتى أنه يبدأ العجن من العاشرة مساء حتى الثالثة من عصر اليوم التالي. أما في خلال شهر رمضان فقد وصل إلى بيع 120 طبق كبير " بلاطو"، و600 "مولة"، وتعني القرصة بتعبير صنائعية هذا الاختراع الإيطالي اللذيذ.

عن سر الرواج يوضح: " أعرف طريقة العجن لكني لست عجّانًا فدائمًا ما أفوض مساعدي للتكفل بذلك، لكن وبوحي من خبرتي الطويلة في صناعة الخبز صرت خبيرًا بنوعية العجينة وطريقة تحضيرها وهذا هو سر جودة البيتزا الأول".

قبل أن يضيف "من المستحسن، أيضًا أن تكون الطماطم المستعملة من الصنف الثاني وهي أكثر نضوجًا وتسمى الزنڨوري أو الزنڨولي باختلاف لهجات شرق البلاد، وهي منتشرة في ولاية عنابة على وجه الخصوص. نحن نستخدم في العادة هذه النوعية الملائمة للعجينة. ففيما يستعمل أصحاب البيتزيريات خمسة كلغ غرام طماطم تُرحى في خلاط عصري، يمكننا نحن رحى قنطاري طماطم بواسطة أمواس مركبة في ثقّابة محمولة، لأننا نعتمد الكمية الموجهة لفئات شعبية، وطبعًا يعرف محترفو الطبخ الفرق بين الطهي لزبائن معينين، والطبخ للجماعات كبيرة العدد".

عليوش

السنكوشي والهاوية

وبنوع من الافتخار بسلعته يكشف حمزة عن علاقة مهنية سابقة، بأشهر بائع بيتزا شعبية في الجزائر، الرجل ذائع الصيت "السنكوشي"، قائلا: " اشتغلت قرابة عام معه، حيث كنت ثاني صانع يحضر له البيتزا التي يبيعها للناس، وطبعًا سمي السنكوشي لأنه كان يبيع القطعة بخمسة آلاف، ويردد ذلك بالفرنسية عبر لفظة "سانك" فلبسته هذه الكنية إلى الأبد، وهو يعترف لكثيرين بأن البيتزا التي أصنعها تؤكل وتحمل للبيوت لجودتها.

كان "سنكوشي" يقول في السابق ظلّ الزبائن يقصدونني للأكل والتقاط صور، لكنهم صاروا ومنذ جلبي بيتزا حمزة يأكلونها ويحملونها معهم لزوجاتهم وأطفالهم. وطبعا الدنيا حظوظ وأرزاق فهو يدير اليوم فرنا ولا أزال أنا أدير طاولتي المتواضعة، وهي مصدر رزقي التي أعتز بها".

من سوء طالع حمزة أن الفرن الذي كان يوفر له رزقه اليومي مسته لعنة شرارة كهربائية فاحترق عن آخره، كما أن شراكات مع آخرين، و"الشركة هلكة" كما يقول المثال بددت أمواله، ليعيش مرحلة عصيبة، قبل عام ونيف.

 عن تلك الفترة القلقة يقول: " في رمضان قبل الماضي، بلغت القعر. تخيل توقفت عن التدخين مدة أربعة أشهر، ولم أكن بطلًا بل مكرها لأني لم أكن أملك فلسًا في جيبي، فبدل أن أشتري سيجارة كنت أفضل اقتناء خبزة للأولاد. وللخروج من عنق الزجاجة اشتغلت في ورشة بناء، كما ساعدتني زوجتي التي تجيد صناعة حلوى السامسا في تدبير قوتنا القليل".

يتوقف قليلا ليستجمع قواه ليضيف: "حينما حل عيد الفطر قبل الماضي، لم أستطع أن أشتري الكسوة لأولادي، حبست نفسي في المنزل لأشهر بسبب أني كنت مدانًا بـ 16 مليون. وفجأة قررت أن أطفو للسطح بدل أن أدفن نفسي في قعر اليأس. نشرت طلب عمل كصانع بيتزا في الفيسبوك، فتلقيت اتصالات مبشرة".

معركة البقاء

فتحت له تلك الاتصالات باب العودة لمضمار الرزق، ففي غضون أشهر قليلة بدأ يعود تدريجيًا للسوق، وما أن حل رمضان الفارط حتى كان يثّبت نفسه ماديًا، خلافًا لما كابده من مرارة في رمضان الذي سبق، وفي هذا الصدد يشير: "انتعشت الأمور عقب ذلك، فوصلنا إلى بيع 200 طبق كبير- بلاطو- يوميا في الشهر الكريم".

في هذه الصائفة يواظب بائع بيتزا ميرامار على القدوم إلى مضائق ستورة، ثلاثة أيام في الأسبوع، يفضل في العادة أن تكون كل خميس وجمعة وسبت، طلبًا لاكتظاظ العطل.

تحظى طاولته بإقبال جيد، خاصة من أولئك القادمين من ولاية قسنطينة، حيث تبلغ مبيعاته ما بين 20 إلى 30 طبق كبير يوميًا، أما الدخل فهو كما يوضح: " يتراوح ما بين 4000 دينار إلى 5000 دج جزائري يوميًا، وأحيانًا مليوني سنتيم وتارة القليل الذي لا يفي حتى بغرض التنقل فجرَا من قسنطينة والعودة في وقت متأخر من سكيكدة، فالبارحة على سبيل المثال دخلت منزلي في الرابعة فجرًا بسبب عطب في سيارتي المهترئة بالطريق السيار، لأعود اليوم في الثامنة صباحًا".

عليوش لـ "الترا جزائر": أنا أصارع الظروف والمشاق والمسافات وهدفي فهو أن أوفر لأبنائي عيشة رافهة أفضل من تلك التي رأيت

لا أحلام للرجل، كما يختتم، سوى في اكتساب فرن مخبزة جديدة لصناعة بيتزا " نظيفة ولذيذة"، نكاية في مصطلح "خامج وبنين" أو "قذر ولذيذ" كما ظل يردد بائع البيتزا الشهير "سنكوشي"، أما أكبر هاجس يطارده فهو كما يقول متحديًا: "بقي أن أخبرك بأن كل العذاب الذي أتكبده يوميًا ليس من أجلي، قط. فككل أب مكافح من أجل لقمة العيش الحلال والكريم، فأنا أصارع الظروف والمشاق والمسافات لأبقى مثل ثور حراث، أما هدفي فهو أن أوفر لأبنائي عيشة رافهة أفضل من تلك التي رأيت".