قبل 100 سنة من الآن، وبالضبط في السابع من شهر آب/أوت سنة 1921، تقدم عبد الرحمن عوف إلى مصالح الإدارة الكولونالية بالجزائر العاصمة قصد تسليم ملف اعتماد جمعية "رياضية شبابية جزائرية مسلمة"، في البداية قُبل طلب عبد الرحمن بالرفض كونه قاصر بحسب عون الإدارة الاستعمارية، فلجأ عبد الرحمن عوف المدعو "بابا حمود" إلى انتحال الحالة الشخصية والمدنية لاحد أقاربه البالع من العمر 19 سنة، من أجل مطابقة قانون تأسيس الجمعية الصادر في 1 تموز/جويلية سنة 1901.
جاءت فكرة تشكيل فريق كرة قدم بعد حادثة عنصرية تسبب فيها معمرون وأقدام سوداء كان يسخرون من الأطفال الجزائريين
نشأت فكرة تشكيل جمعية رياضية كروية بعد حادثة عنصرية كان وراءها معمرون أوروبيون وأقدام السود تركت أثرًا في نفسية عبد الرحمن عوف، حيث كان المستوطنون البيض يستهزئون بأطفال جزائريين اتخذوا من ساحة الشهداء أسفل القصبة، فضاءً للعب كرة القدم، وبصورة تهكمية كانوا ينعتون تلك الأجواء "هذه هي حديقة العرب"، في مقارنة منهم بـ "حديقة الأمراء بباريس" (Parc des prince).
الرياضة واسترجاع الكرامة
كانت كرة الأطفال الجزائريين عبارة عن جوارب محشوة بالأوراق، أو أكياس بلاستكية تعبأ بداخلها قطع من القماش، كان أغلب هؤلاء الأطفال يتامى ومشردين ودون مأوى، وكانت تلك اللحظات أسمى ساعات سعادتهم، وكان "بابا حمود" أحد هؤلاء الأطفال اليتامى حيث نشأ في أسفل المدنية العربية (القصبة، وكان يتأمل ويتألم لمظهر هؤلاء الأطفال، ليعقد العزم على تأسيس جمعية رياضية كروية جزائرية الهوية.
كرة القدم و المقاومة
خلال فترة 1920-1930 بدأت تحضيرات الاحتفال ببالذكرى المئوية من الوجود الفرنسي، حيث كان المعمرون الأوروبيون يتوسعون داخل الأراضي الجزائرية، وكلما ازدهرت أوضاع المعمرين المعيشية والمادية، تراجعت وتدهورت وضعية الجزائريين وسلبت أبسط حقوقهم.
بعد الحرب العالمية الأولى التي عرفت مشاركة الجزائريين في الحرب وتجلت خرافة التفوق العنصر الأوروبي على الفرد الجزائري، وساهمت الظروف ما بعد الحرب على نمو الحس الوطني، وبدأت معالم الحركة الوطنية في البروز، وأضحى الخطاب الإصلاحي والاستقلالي يأخذ مساحات واسعة في النقاشات والسجالات وسط الجزائريين، الذين كانوا يعانون من التميز تحت النظام العنصري" أنديجنا".
عبد الرحمان عوف ورفقة ثلة من شباب أبناء القصبة، بدأت فكرة البحث عن إطار جمعوي رياضي يجمع الجزائريين، يأخذ شكل من أشكال المقاومة والنضال الوطني، ورفض القوانين التمييزية، وإطار يضع فاصل بين الوجود الجزائري المسلم والتمييز من الأوروبيين والأقدام السود في مجال الرياضة، وجاء ميلاد نادي المولودية الجزائر في 31 آب/أوت 1921، وتم اعتماد الفريق رسميًا في الفاتح تشرين الأول/أكتوبر 1921.
تداولت عديد من الأسماء من أجل تسمية الفريق، والملاحظ أنها كلها تحمل رمزيةدينية"الإسلام"، على غرار "نادي هلال الجزائر" و"النجم الرياضي الجزائري" إلى غاية الإجماع على لقب "نادي مولودية الجزائر" نسبة إلى مولود النبوي الشريف الذي صادف يوم 7 من شهر آب/أوت 1921، وتم اختيار لون الأخضر الذي يرمز إلى الإسلام، ولون الأحمر يمثل التضحية وحب الوطن.
كان على رأس الفريق "بابا حمود" الذي تبرع بجزء من إرثه الذي سلمته له خالته المقدر بـ 150 ألف فرنك فرنسي، وبتلك الأموال اشترى الألبسة والمستلزمات الكروية، وفي سنة 1922 جنّد عبد الرحمن عوف عسكريًا وأرسلته فرنسا إلى ألمانيا خلال الحرب، ليتم تعليق أنشطة النادي بسبب عدم دفع حقوق الاشتراك، وبعد عودتهعاد نشاط النادي مجدّدًا.
ومن بين أسماء التي سهرت على إدارة وحملت الألوان المولودية أحمد جعوت، ستور قدور، عبدون، كرمية، بن نونة، حريزي، لعجاني، بودرار، بوهروة، سمار، عريف، ميدون، بولرابح، بن سماية، عبد الله بن حبيلس، كمال لموي، بوبكر.
ميزة نادي المولودية الجزائر
لقد كان ميلاد نادي المولودية الجزائر تظاهرًا وتعبيرًا انتمائيًا إلى الهوية والشخصية الجزائرية والمسلمة، حيثتضمنت المادة الثانية من قانون الجمعية أن الجمعية تهدف إلى جمع الشباب المسلم الراغبين في ممارسة الرياضة، وهذا ما يميز نادي المولودية الجزائر عن باقي الفرق الرياضية التي أسسها مستوطنون أوروبيون رغم أنها كانت تضم لاعبين جزائريين، إذ أن باقي الفرق لم تكن تحمل لونًا أيديولوجيا أو هوياتيًا ووطنيًا.
بدأ تخوف الإدارة الاستعمارية يطفو إلى السطح، وتفطنت إلى أن للنادي الرياضي الجزائري الذي شكل الحس الوطني والمقاومة السلمية أبعاده الخفية، فقد أصدرت الإدارة الاستعمارية سنة 1928 تعلمية تنص على منع اللقاءات الكروية بين الفرق المسلمة والفرق الأوروبية، تفاديًا لشحن الخطاب والشعارات الاستقلالية في الملاعب، لكن القرار لم يطبق فعليًا، واستطاعت الفرق الرياضية تشكيل بطولة مزدوجة تضم النوادي الجزائرية المسلمة والأوروبية.
وفي 1930 صدر قرار يفرض على كافة الفرق الجزائرية المسلمة ضم ثلاثة لاعبين أجانب، وفي سنة 1935، تم رفع عدد الأجانب في الفرق المسلمة إلى خمسة لاعبين إضافة إلى مسير أوروبي واحد ضمن الطاقم الإداري.
حفاظًا على المكسب والبعد الوطني للفريق، استطاعت إدارة النادي المولودية على رأسها "بابا حمود" من التحايل على القرار الذي حاول طمس الهوية الجزائرية للفريق، وهذا عبر جلب لاعبين من أمريكا للاتينية على غرار أسماء كـ "كوستا" و"ماسيا" والاعب الأرجنتيني جوردان أو ألبور، والحارس الإيطالي برانكي، أما لويس روزي فقد انضم إلى الطاقم الإداري رفقة براهيم دريش ومحمد طيار، حيث كانت المولودية حريصة على عدم إدراج أي فرنسي الجنسية ضمن الفريق.
كلنا ولاد تسعة شهور
كانت إمكانيات مولودية الجزائر المادية واللوجستيكية ضعيفة وهشة، ضاعفتها مضايقات الإدارة الاستعمارية والفرق الكروية التابعة إلى الأقدام السوداء، وكانت التبرعات الفردية والمساهمات جد محدودة، لكن الإرادة والعزيمة كانتا الأقوى، فقبيل كل لقاء كروي يَجمع الفريق الجزائري مع الفرق الأوروبية المدربة، كان لاعب المولودية يتسلح بمقولة "كلنا أولاد تسعة شهور “بمعنى أن التفوق في اللياقة البدنية أو الرياضية أو التميز في القدرة والكمال متاح للجميع، وكانت العبارة مبعث الروح القتالية خلال المباريات.
كانت تدريبات لاعبي المولودية تقام في منطقة يطلق عليه اسم "أسوارج" الواقعة في أعالي القصبة، وكانت تستقبل الفرق الكروية في ملعب يقع بحي بلفوار وكان يطلق على الاعبين المولودية بـ "أسود بلفور".
وفي 1938 استقرت المولودية في استقبال الفرق الكروية في ملعب "سانت أوجان سابقًا" (بولوغين حاليًا)، بفضل مجهودات الأمين العام آنذاك مولود جزولي، الذي تمكن من إقناع وإغراء أعضاء البلدية، وكما كان متوقعًا فإن استقبال المولودية في ملعب بولوغين كان يعود بموارد مالية للملعب والبلدية أفضل بكثير من الفريق المحلي للأقدام السود المسمى "جمعية سانت أوجان"، فقد كانت لقاءات المولوية تشهد حضورًا جماهيريًا غفيرًا.
لقاءات حاسمة 1936/1935
خلال الموسم الكروي 1925/1926 التحق نادي المولودية رسميًا بالرابطة الفرنسية لكرة القدم، بعدما كانت منضوية في موسم 1921/ 1922 تحت تأطير "الفيدرالية الرياضية المستقلة لشمال أفريقيا".
وخلال المواسم الكروية العشر تراوحت نتائج المولودية بحسب الظروف والإمكانيات، لكن الفريق حقق نتائج مشرفة، وتمكن خلال عشر سنوات من الالتحاق بالقسم الأول، إذ صعد فريق المولودية نهاية الموسم 1930/1931 إلى القسم الأول زاد طموح بالالتحاق بالقسم الشرفي أو النخبوي.
وقصد الصعود إلى القسم النخبوي واجه الفريق المولودية واحدة من الفرق الأقوى حينها، والمعروف عنها عدواه وكراهية الجزائريين المسلمين، حيث كان الفريق المنافس يُمثل ويُمول من طرف المستوطنين مالكي الأراضي ومزارعي مادة الكروم في منطقة المتيجة ويتعلق الأمر بـ"أولمبيك مارينغو" (حجوط حاليًا)، وهو الفريق الذي كانت جماهيره من "ألتراس الجزائر الفرنسية" من مدنية بوفاريك والبليدة وموزاية إلى غاية تيبازة غرب البلاد.
يشار إلى أن تلك الأراضي الخصبة سلبت من أهالي المنطقة الذي تم إبادتهم على غرار عروش أهالي الحجوط (الحجطة)وموازية والعفرون.
جرى اللقاء الأول والثاني في ملعب الحراش وانتهى اللقاءان بالتعادل 1-1، ليعاد ترتيب لقاء آخر في ملعب العفرون، وأمام جمهور أولمبيك مارينغو، ورغم الضغوطات وانحياز الحاكم غير أن المولودية تمكنت من الفوز بنتيجة 2-1 من طرف عابد وشلباني مسجلي الهدفين.
وكما كانت متوقعًا جرت أعمال شغب واجتياح أرضية الملعب من طرف مناصرين "أولمبيك مارينغو"، وكان تخوف الطاقم الإداري ولاعبي المولودية من تحمليهم المسؤولية، غير أن الأمين العام مولود جزولي كان قد تمكن من الحصول عل وثيقة من الرابطة الكروية تعترف بعدم تحمل الفريق المولودية أية مسؤولية في حالة حدوث أعمال شغب.
كان فوز المولودية على فريق من الأقدام السود الأكثر تطرفًا ورجعية، والصعود إلى القسم الشرفي أحدث هزة سياسية وهبة وطنية، وأسقط الكثير من المسلمات عن التفوق الأوروبي، وباشر أعضاء من الحركة الوطنية من مختلف مناطق الوطن رفقة مسيري المولودية من أجل فتح نوادي رياضية كروية ورياضية أخرى، وبات اللاعبون الجزائريون المميزون يختارون اللعب لصالح الفرق الجزائرية المسلمة بدل الفرق الفرنسية.
المولودية فرحة وسط الآلام
عبر انتصاراتها الرياضية والكروية استطاعت المولودية إدخال البهجة والسعادة وعودة الحياة إلى النفوس رغم الحرمان والتهميش وسلب الحرية والكرامة تحت قبضة الاستعمار، فقد كانت تنظم بعد كل فوز حفلات غنائية في المقهى الرياضي أو قهوة لعريش ومقهى ملكوف ينشطها كل من الحاج مرزق، والحاج العنقى.
ساهمت عدة عائلات جزائرية بورجوازية في تمويل الجمعيات الثقافية والرياضية خلال الفترة الاستعمارية
لقد استطاعت المولودية من شحذ الهمم ورفع التحدي وتشجيع العائلات الجزائرية البورجوازية من أجل تمويل الجمعيات الثقافية والرياضية الجزائرية-المسلمة على غرار عائلات عباس تركي، وحمود بوعلام، وعائلة حمزة و بن مرابط، موهوب، طيار، عائلة بن شيكو، صوفي، وعائلة بوشوشي وبن رضوان وبن اسماعين وكلها عائلات ساهمت بعدها في تمويل الثورة التحريرية.