31-مارس-2023
مولود قاسم نايت بلقاسم (فيسبوك/الترا جزائر)

مولود قاسم نايت بلقاسم (فيسبوك/الترا جزائر)

مولود قاسم نايت بلقاسم، مفكّر ومثقف جزائري بارز، صنع المفارقة في الحياة الفكرية والحقل الديني غداة توليه وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية سنة 1971، حيث يشهد له كثيرون بالعطاء الفكري والعلمي والنشاط الدؤوب في الدفاع عن المقوّمات والشخيصة الوطنية، والبحث عن صيغ التوافق بين الأصالة والمعاصرة.

مولود قاسم أسس مجلة "الأصالة" لتكذيب الرواية الكولونيالية وصدّ مزاعم المؤرخين الفرنسيين الذين حاولوا إيجاد شرعية تاريخية اشتغلت على تأصيل التواجد الروماني والمسيحي خدمة للمشروع الاستيطاني وشرعنة الاستعمار

اشتغل مولود قاسم على إعادة تنظيم الحقل الديني، واسترداد مكانة المسجد وتنمية الخطاب المسجدي وفق الرهانات العصرية، كان وراء ثورة فكرية عبر إشرافه على تنظيم وتأطير الملتقيات والندوات الإسلامية التي كانت تستقطب وفودًا من القارات الخمس، وتستقبل بعثات من الباحثين والمفكّرين والكُتّاب.

من هو مولود قاسم؟

مولود قاسم من مواليد قرية بلعيال إحدى قرى جبال إيث عباس في القبائل الصغرى، الواقعة بولاية بجاية التي تمثل جزءًا من كتلة جبال البيبان الكبرى وادي الصومام، والتي كانت تمثل مقر إقامة وإمارة عشيرة أولاد مقران في قلعة إيث عباس.

ولد مولود قاسم في أواخر عقد العشرينيات من القرن الماضي، بالضبط في السادس كانون الثاني/جانفي سنة 1927، حفظ القرآن في سن مبكرة، وتلقى مبادئ اللغة العربية والفقه بمسقط رأسه.

في أواخر الحرب العالمية الثانية (1945/1946) اتجه الشاب القادم من بلاد القبائل لدراسة العلوم بجامعة الزيتونة بتونس إلى غاية سنة 1950، وانتقل بعدها إلى القاهرة والتحق بقسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة، حيث شَكلت القاهرة محطة محورية في بلورة معالمه الفكرية والسياسي.

تأثر مولود قاسم هناك بالحياة الفكرية الغنية والمُشبعة بالأحداث السياسية والإقليمية، ومع بداية سنة 1954 التحق بجامعة باريس لنيل شهادة  الدكتوراه بتقديم أطروحة "الحرية عند المعتزلة".

الثورة التحريرية

كان مولود قاسم مشبعًا بالروح الوطنية، حاقدًا وناقمًا على الاستعمار الفرنسي، فغداة اندلاع الثورة التحريرية في الفاتح من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1954 ترك دراسته والتحق بالوفد الخارجي وممثلي جبهة التحرير الوطني بالخارج، ونظرًا إلى تحكمه في عديد من اللغات العالمية وامتلاكه مهارة فن الخطابة، أُرسل إلى عواصم أوروبية ضمن وفد جبهة التحرير الوطني من أجل الدفاع عن القضية الوطنية.

الوظائف والمسؤوليات

بعد الاستقلال التحق مولود قاسم بوزارة الخارجية، وتولى منصبًا بقسم الشؤون البلدان العربية، وفي سنة 1971 تَسلم حقيبة وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية.

رغم توليه منصبًا دبلوماسيًا ووزاريًا، لم تنقطع اهتمامات مولود قاسم الفكرية والهواجس التاريخية، ففي سنة 1971 أسس مجلة الأصالة بهدف إحياء مشروع التاريخ الوطني، وكتابة التاريخ الوطني وفق القراءة الصحيحة والموضوعية، وتكذيب الرواية الكولونيالية، حيث صدّ مزاعم المؤرخين الفرنسيين الذين حاولوا إيجاد شرعية تاريخية اشتغلت على تأصيل التواجد الروماني والمسيحي و"العنصر الأبيض"، من أجل خدمة المشروع الاستيطاني وشرعنة الاستعمار، كان مجملها دراسات وأبحاث  تاريخية فرنسية ألغت المكونات الهواياتية والعقائدية من الضمير الجمعي للأمة الجزائرية.

كان مولود قاسم حاملًا مشروعًا نهضويًا، الغاية منه استرجاع معالم ومكونات الشخصية الوطنية، والتي عمل الاستعمار الفرنسي على تفكيكها، وفي هذا السياق كان من أوائل من بادر على إحياء وتوثيق أمجاد المقاومات والثورات الشعبية، وإبراز دورها في تراكم الوعي الديني والوطني، وتأطير الأبحاث والتأريخ حول المقاومات الشعبية.

معركة التأهيل

قبيل مجيئ مولود قاسم إلى وزارة الشؤون الدينية، كان قطاع الشؤون الدينية يعرف اختلالات الكثيرة، نتيجة ضعف الموارد البشرية ونقص الكوادر، علاوة على زهد ميزانية القطاع، وغياب رؤية ومقاربة استشرافية لهذا القطاع الحساس، وعندما تسلّم مولود قاسم وزارة الشؤون الدينية عمل على إعادة تنظيم القطاع، محققًا زيادة في ميزانية الممنوحة للقطاع، واهتم بإطارات الوزارة، وعمل على تطوير وتكوين أئمة المساجد، واشتغل على إعادة مكانة الخطاب المسجدي وأهميته المجتمعية، والارتقاء اجتماعيًا ومهنيًا بإطارات وموظفي ومفتشي وأئمة المساجد تم تحسين سُلّم الأجور، وتم إدراج موظفي وعمال السلك الديني ضمن الوظيف العمومي.

المعاهد الإسلامية

رفقة بعض إطارات وزارة الشؤون الدينية، ساهم مولود قاسم في إنشاء عديد من المعاهد الإسلامية من أجل رفع من مستوى الخطاب الديني وتحسين أداء القائمين على مؤسسة المسجدية، كما حرص مولود قاسم على الطابع الهندسي والمعماري الأندلسي والعربي-الإسلامي في التشييد والبناء، وكان المشروع يحمل أبعاد تعلمية وتربوية كبرى وهادفة، غير أن مشروع التعليم الأصلي عُرف بعض العراقيل والمطبات بداية من سنة 1976، بحجّة توحيد التعليم وإدماج المعاهد الإسلامية في التعليم العام.

ملتقيات الفكر الإسلامي

ارتبط اسم مولود قاسم بـ"ملتقى الفكر الإسلامي" وساهم في إنجاحه واستقطابه أشهر العلماء والباحثين والمفكّرين، فقد أحدث نايت بلقاسم ثورة في ملتقيات الإسلامية شكلًا ومضمونًا، فخصّص لها مديرية على مستوى الوزارة تتكفل ماديًا وتنظيميًا ولوجيسكيًا من أجل استضافة علماء وباحثين من أقطار العالم الإسلامي. لقد كانت تُرسل الدعوات إلى الأساتذة المحاضرين ستة أشهر قبل انعقاد الندوة وتحديد محاور المحاضرة، ويتم تعيين مدن وأماكن انعقاد الندوة، وعلى المستوى التنظيمي أيضًا، كان يُطلب من الأساتذة إرسال نصوص مداخلتهم مسبقًا من أجل طباعة المداخلة وترجمتها وتوزيعها خلال الملتقى.

كان مولود قاسم يُشرف شخصيًا على افتتاح ملتقيات الفكر الإسلامي، ويُساهم في تحديد المحاور والمواضيع، ويَقفُ على ظروف إقامة وإطعام العلماء والباحثين، وكانت تنظم رحلات سياحية في عدد من المدن الجزائرية.

مولود قاسم والتاريخ

كانت مادة التاريخ تُشكّل عند مولود قاسم أبلغ الاهتمامات الفكرية والوظيفية، ورغم أن تخصّصه في مادة الفلسفة، غير أن مولود قاسم أدرك أن الرهان الأساسي في استعادة الاستقلال الحقيقي والرمزي هو تمكين الأمة الجزائرية من استعادة هويتها وذاكراتها الأصيلة والعمل على إبطال التأريخ والرواية الكولونيالية التي شوهت تاريخ الجزائر وشكّكت في وجود أمة جزائرية قبل سنة 1830، بل أبعد من ذلك، فقد عمل الاستشراق الفرنسي على إحياء الموروث الروماني والمسيحي في شمال أفريقيا من أجل إيجاد شرعية تاريخية للاستيطان الفرنسي.

في هذا السياق، ألف مولود قاسم كتابًا من جزئين سماه "شخصية الجزائر الدولية وهيبتها قبل سنة 1830"، حاول من خلاله إبراز مكانة الجزائر ودورها على صعيد شمال أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط والرد على بعض المشكّكين الفرنسيين، كما حرص أن تخصص محاور "الملتقيات الإسلامية" على المواضيع التاريخية، يحضروها عربًا ومسلمين وأوروبيين وتسلط الأضواء على جوانب من التاريخ الجزائر.

لم يكن مولود قاسم نايت بلقاسم وجود تباعد بين البعد العربي والمكون الأمازيغي

مولود قاسم والأمازيغية

كان المرحوم مولود قاسم مفكرًا إسلاميًا، شديد الارتباط بالشخصية الوطنية ومدافعًا صلبًا عن اللغة العربية وتعميم استعمالها، فضلًا عن كونه رجلًا منفتحًا على الثقافات والديانات الأخرى، فقد كان متمسكًا بالبعد والانتماء الأمازيغي ويذكر أنه أطلق اسم يوغرطة على أحد أبنائه، ولم يكن يرى وجود تباعد بين البعد العربي والمكون الأمازيغي؛ بل بالعكس، فقد صقلت وامتزجت كل المكونات الثقافية واللغوية في قالب الشخصية الوطنية، وهو المشروع الذي سكن هواجس وهموم المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم.