زارت الرحالة البرتغالية بولا كوطا الجزائر خلال تشرين الثاني/نوفمبر2022، فطافت على متن رفيقتها الودودة، دراجتها النارية "بي. أم. دبليو"، غرب وشرق وجنوب البلاد، مستكشفة ومصورة الطبيعة والدور والحمامات والبشر. لكنها غادرت البلاد وفي قلبها غصّة كبرى، فإجازتها الممتدة على مدار أسبوعين لم تتح لها تحقيق حلمها بزيارة جانت، وعبور طرق الصحراء الأسطورية.
الرحالة بولا كوطا مدّت بدراجتها النارية وألبومات صورها ومنشورات يومياتها الجزائرية جسرًا يربط بين البرتغال والجزائر، ما بات يُغري الكثير من البرتغاليين على زيارة البلد
شهر تشرين الأول/أكتوبر 2023 عادت البرتغالية التي تقول "المستحيل مجرد رأي"، إلى الجزائر بتأشيرة مطولة، مكّنتها أخيرًا من النوم ليلًا في العراء، في فندق مليون نجمة بصحراء تادرارت، تلك القطعة الربانية الأرجوانية المتحدة مع أنوار الشمس ساعة الفجر وعند الغسق، والتي دفعت معد التحقيقات الكبرى يان أرتوس برتران، إلى الابتهال في شبه صلاة عندما وقعت عيناه عليها ليقول: "في أقصى الجزائر، رأيت تادرارت الحمراء. تأملت جمال العالم اللامحدود كي أذكره إلى الأبد. وركعت، ثم أغمضت عينيّ، وعندما أعدت فتحهما رأيت شعبا بأكمله رحب بي. سأحمل في ذاكرتي كل هذه الوجوه، كل هذه النظرات. شكرا لكم".
ابتسمي فأنت في وهران
لم تكن بولا، المرأة العاملة في شركة للمحاسبة في العاصمة البرتغالية لشبونة، والمتعودة على زيارة دول العالم، تتوقع أن تتحقق أمنيتها الفريدة شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2022، بزيارة الجزائر للمرة الثانية، إذ تقول لـ "ألترا جزائر" إنّها "لطالما كانت تحدوني رغبة كبيرة في التعرف على دول الشرق الممتدة من شمال أفريقيا حتى الشرق الأوسط، بما أنها بلدان تعد مهد حضارات قديمة، عندما أتيحت لي فرصة الحصول على "الفيزا" لم أتردد للحظة في خوض التجربة."
لتكمل ساردة: "فأنا دائمة السفر بدراجتي النارية، فمنذ الصغر تمنحني هذه الوسيلة الميكانيكية الشعور بالحرية و الانعتاق من كل شيء، كما لو أنك تترك أحمال الدنيا وراءك كلما لامس الريح خوذتك أو خصلات شعرك".
رغم ذلك الشوق السياحي الذي سبقتها لأكبر بلد أفريقي وعربي، فقد شوشت عليها مخاوف مشروعة ومبالغ فيها، تُثار كل مرة، عن خطورة السفر إلى الجزائر، عبر ما يروّج له على الإنترنيت، أو من نصائح تَوخِي السفر في مناطق بعينها، التي تنشرها سفارات الدول الغربية، عبر ألوان التصنيف الحمراء والصفراء.
قرّرت صاحبة الدراجة النارية الرد عبر عبارة يوليوس قيصر الشهيرة " فيني، فيدي، فيتشي" أي "جئت، ورأيت، فانتصرت" على كل المخاوف وعلى الإشاعات، فتوضّح هنا "طبعًا هنالك خوف موضوعي ينتاب أي شخص يزور بلدًا مجهولًا لأول مرة، لكن صدقني كل هذه المخاوف وأخرى أكثر حدة كالتخويف من الزيارة التي سمعتها من أصدقاء ذابت كلها مثل أسبرين في كوب ماء بسبب ابتسامة."
وتردف مستذكرة أوّل لحظة عند إقلاعها صوب الجزائر "صادفت في بطن الباخرة التي حملتني ودراجتي من ميناء ألميريا إلى ميناء وهران شخصًا جزائريًا لا أعرفه، ابتسم لي ثم راح يساعدني بلطف كبير، في تحميل دراجتي وأغراضي وفي تحضير الوثائق وهو يترجم لي ما كان يطلبه رجال الجمارك والشرطة مني."
تكمل: "لقد عاملني هذا الغريب بمحبّة كبيرة فشعرت بالدفء ثم حظيت بمعاملة رائعة من طرف ضباط وأعوان الجمارك والشرطة، وطبعًا أيقنت أن هذه الوجوه الباسمة هي واجهة شعب بقلب كبير يعيش في بلد طيب الأعراق".
إيزابيل.. وفتنة الطاسيلي الكبرى
خلال سفريتين زارت بولا بدراجتها النارية مدن وهران والبليدة وتيبازة والعاصمة وسطيف وغرداية وبسكرة وباتنة وقسنطينة، فتعرفت على ضريح إيمدغاسن وتيمقاد وشُرفات غوفي وجسور قسنطينة وواحات طولقة وقصور غرداية، وقلعة سانتا كروز، ومسجد كتشاوة والقصبة، كما التقطت أكثر من 4000 صورة عن الحياة الجزائرية الدافقة في الأسواق والحارات القديمة. إن ما يستهويها أكثر هو تخزين وجوه الناس في ذاكرتها البصرية والرقمية كي تحتفظ بهم إلى الأبد.
وقبل شهرين فقط كانت الرحالة البرتغالية تقطع رفقة دراجين جزائريين طريق الصحراء الكبرى، كان حلمها زيارة جانت والطاسيلي، وتحقق لها ذلك. على مدار عشرة أيام بلياليها، زارت تيكوباوين وتادرارات وايسنديلن واقتربت من مجسم البقرة الباكية، والفيل الحجري، وتناولت أكلة المايناما الشهيرة، وتم الاعتناء بها كما يجب رغم أنها تهوى سياحة المغامرة البعيدة عن متطلبات الحياة العصرية، تأكل اللوبيا والجبن ومصبرات التونة والحميص الطازج فوق الجمر والبيض المسلوق.
كلّ هذا جعل مرافقيها ومن التقتهم في سفريتها وهي تتماهى مع روحانية الصحراء الممتدة يلقّبونها بإيزابيل إيبرهاردت الجديدة، فهوايتها الأولى أن قطع الطريق بمفردها، وهو ما كانت تفعله كلما افترقت عن كوكبة دراجين لتلتحق بمدينة أخرى، قبل أن تسأل عن أهم المواقع واجبة الزيارة في كل بقعة.
وحول زيارة الصحراء تصف رحلتها بأنّ "التعب لازمني بعدما قطعت أكثر من ألفي كيلومتر، أجبرني ذلك على إهمال زينتي فأنا لم أمشط شعري طوال ثلاثة أسابيع، كما أني لم أستحم سوى مرة واحدة في وادي إيسنديلن، فقد كنت أنط فرحًا بهذه التجربة، إن صحراءكم لا تشبه أية صحراء أخرى، لقد فُتِنت بها، وما أذهلني مشهد التمازج النادر بين الرمال الذهبية والصخور البركانية."
تواصل وصفها باندهاش "هذا كان بحق أمر خارق للعادة، عندما رأيت وادي إيسنديلن ووقفت عند رسومات تعود لـ 8000 سنة بحظيرة الطاسيلي ناجر وهي أكبر متحف طبيعي مفتوح في الكون، تمتمت: "سحر المكان، الصمت، الجمال يخزن في الذاكرة"، فلا كلمات يمكن أن تصف الروعة المطلقة."
احترام الأم..
تعترف البرتغالية، التي استضيفت العام الفارط في حصة تلفزيونية بلشبونة أسهبت فيها ذكر خصائص الجزائر، بأن هذا البلد رائع التنوع بين بحر وجبل ورمل، وعظيم بجغرافيته الإمبراطورية، التي تتطلب وقتًا كبيرًا لزيارته؛ "هذا البلد يمكنه وبسهولة أن يكون ماردًا عملاقًا في السياحة الدولية شريطة الاعتناء بالمواقع التاريخية الزاخرة، وتأهيل الفنادق ومهاجع الإيواء، والأكثر من ذلك الصيانة الدائمة، وهذا ليس بالأمر العسير أمام ما تتمتع به البلاد من طاقات وقدرات هائلة، وأكثرها طلبًا الأمان"، وفق البرتغالية بولا.
وهنا تواصل كلامها لــ"ألترا جزائر" "قضيت في مجمل زيارتي للجزائر شهرين كاملين، وطوال ستون يوما شعرت بالأمان المطلق، أتلقى إرشادات رجال الشرطة في الطريق. وكثير من الغرباء يساعدونني بلطف نادر، على الرغم من أن رائدات الدراجات النارية في الجزائر قليلات. كنت أستقبل، أينما حللت بكرم كبير."
وما لفتها أكثر أنّ "أشخاصًا يدعونني لتناول الطعام، وعائلات تفتح لي منازلها لمشاركتي لهم حول المائدة، في وهران والأغواط وقسنطينة ومستغانم والعلمة، وتناولت طعامًا جزائريًا، كسكس، شخشوخة، بوراك وشربة الفريك، في ضيافة هذه العائلات وطبعًا هذا يغمرني سعادة، ويشبع رغبتي في اكتشاف عادات وتقاليد الناس الاجتماعية والمطبخية."
تعترف محدّثتنا بأنّه "لقد ازداد وزني بعد تناول تلك الأطعمة الفاخرة، التي يشبه بعضها طعامنا البرتغالي، فأحببت الطبيخ لجزائري اللذيذ، كما أحببت إحساس الجزائريين بعائلاتهم واحترامهم لأمهاتهم، إن هذا الاحترام للأمهات المنبعث من صميم التقاليد الاجتماعية هو مؤسسة قائمة بحد ذاتها".
جسر سياحي بين لشبونة والجزائر
زارت بولا أكثر من أربعين بلدًا عبر العالم، جالت في عدة دول أوروبية بينها إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا والكوسوفو وصربيا وكرواتيا، وطالت دولًا آسيوية مثل الهند وميانمار والفيتنام و كمبوديا، وصالت في دول القارة الأميركية مثل البيرو وغواتيمالا، ونزلت إلى دول أفريقية جنوب الصحراء على غرار غينيا والسنغال وغامبيا، قبل أن تعرّج على شمالها بموريتانيا والمغرب ومصر وتونس.
لكن الجزائر هي البلد الوحيد الذي أقام في قلبها، ولذلك قالت في لقائها معنا "سأعود للمرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة، سأرجع خلال الربيع المقبل مع مجموعة من الأصدقاء الذين حرّضَتهم صُوَرِي التي أُشاركها بواسطة فيسبوك على المجيء، وحقًا الجزائر بلدٌ قارة، وما وجدته فيه يدفع للرغبة في الزيارة أكثر فأكثر بسبب التنوع والتاريخ والغذاء والمناظر الطبيعية وخاصة الناس."
لا تدري بولا كوطا أنها تحولت عبر ألبومات الصور ومنشورات يومياتها الجزائرية، التي تشاركها عبر صفحتها الفيسبوكية أنها مدت بدراجتها النارية جسرًا يربط بين البرتغال والجزائر، ما بات يغري الكثير من البرتغاليين على زيارة البلد.
رسالة..
مرّ أكثر من شهرين على عودتها إلى بلدها، وقبل أيام أرسلت رسالة نصية لي تقول فيها "نسيت أن أخبرك أني قضيت 23 يومًا في الجزائر، وقطعت بدراجتي النارية 6300 كلم، لم أنفق خلالها سوى 85 أورو. لكني صرفت خلال عودتي من ألميريا إلى بلدتي قرب لشبونة 173 أورو بعدما قطعت 1700 كلم فقط. وهذا يعني أن سعر المحروقات لديكم زهيد جدًا ومشجّع على أن تكون بلدكم وجهة مثالية لسياحة المغامرة.."
وختمت رسالتها: "لفتني أيضًا وجود نواد كثيرة لرواد الدراجات النارية وبينهم نساء متحديات مثل الطبيبة الجراحة نوال حمزة. ثمة أمر آخر لقد تعلمت عجن وخبز وطهي "الكسرة" (خبز تقليدي) الجزائرية اللذيذة."