ما بين ولادته عام 1995 في مدينة برج بوعريريج، 200 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، وعام 2010، كان شغف أسامة بلعمري بكرة القدم لا يعلو عليه شغف آخر. وكان نجوم السّاحرة المستديرة يأتون في مقدّمة الوجوه التّي تحظى بإعجابه واهتمامه ومتابعته وحلمه بأن يكون مثلهم، "فكنت أبذل كلّ ما يتعيّن على من يسعى إلى أن يصبح نجمًا كرويًّا أن يبذله، حتّى باتت أسرتي ومحيطي مستعدون تمامًا لأن يروني نجمًا".
يكشف أسامة بلعمري عن نيّته في فتح عيادة نفسية تقوم على العلاج بالرّقص المعاصر
غير أنّ أسامة لم يجد في كرة القدم، رغم امتلاء يومياته بها، وإعجاب محيطه به، ما يجعله يشعر بالتّوازن النفسي والذهني، "فكأنّني كنت أبحث فيها عن فعل آخر هو ما يُحقّق لي ذلك التّوازن والفرح، فقط لم أكن أعرف اسمَه، فكان تعبيري عن الفوز في مباراة ما يختلف عن تعبيرات زملائي، إذ بينما كانوا يعبّرون عن فرحتهم بالفوز، من خلال الهتاف والألعاب النّاريّة، كنت أعبّر عن ذلك بحركات جسدية تثير الانتباه إليها، رغم كونها صامتةً، أكثر ممّا تفعل هتافاتهم رغم كونها صارخةً. وكنت أشعر براحة بعدها، رغم أنّها لا تتجاوز دقيقةً، هي أعمق من الرّاحة التّي تخلّفها فيّ مباراة من 90 دقيقة!".
مع بداية العشريّة الثّانية من القرن الواحد والعشرين، بدأ الفضاء الجزائري يتفتّح على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وبدأ الهاتف الثّابت ينزاح لصالح الهاتف النّقّال، فبات ممكنًا لأسامة أن يشاهد فيديوهاتٍ في يوتيوب يجد فيها ما كان يبحث عنه من التّعبير الجسدي المعاصر، "فكان الأمر شبيهًا بأن يجد الضّائع في نفق مظلم المخرجَ المضيئ. ويسمح لذلك الضّوء بأن يتسلّل إلى روحه ووجدانه وجسده، ويصبح هو كلّ شغفه وولعه واهتمامه، إذ بات قراري بأن أصبح راقصًا غير قابل للنّقاش، إلّا من زاوية إثرائه وتحقيقه".
لم يكن الرّقص المعاصر بكلّ فروعه معروفًا وممارَسًا في الجزائر، إلّا في حدود نخبويّة ضيّقة. وكان الممارس له يُدرج عفويًّا من طرف قطاع واسع من الشّعب في خانة الميوعة وتقليد الغربيّين (النّصارى)، فكان واضحًا مسبقًا أنّ عائلة أسامة سترفض خياره الجديد، ليس من زاوية كونه مخلًّا بهيبة الرّجل فقط، بل أيضًا من زاوية كونه حلّ محلّ كرة القدم التّي تراها منفذًا للشّهرة والمال، خاصّة أن شباب الفريق الوطنيّ، حينها، كانوا في أوجّ تأثيرهم على الأذهان والوجدان.
فقد فرضت تسريحات اللّاعبين عنتر يحيى ورفيق حلّيش نفسها، خاصّةً بعد المقابلة التّاريخيّة التّي جمعت الفريق الجزائريّ بالفريق المصريّ، في أم درمان السّودانيّة عام 2010، ضمن تصفيات كأس أمم أفريقيا.
لقد وجدت نفسي، يقول محدّث "الترا جزائر"، أمام رهانين هما أن أطوّر نفسي في هذا الفنّ، فرغم أنّني كنت أملك جسدًا رشيقًا موروثًا عن ممارستي لكرة القدم، إلّا أنّه كان محتاجًا إلى التّكوين، وفق تقنيات وأصول الرّقص المعاصر، وأن أدافع عن خياري أمام أسرتي ومحيطي، من غير أن أخسرهما، فاعتمدت على حيلتين هما التفوّق في الدّراسة لطمأنة الأسرة، والخروج إلى الشّارع لخلق حالة من التّعوّد.
اقتحم أسامة بلعمري السّاحات العامّة مع أربعة من أصدقائه، ثمّ راحت "الشّلة" تكبر، بعد أن لعبوا دور كاسحة الجليد، حتّى بات مألوفًا في الفضاءات المفتوحة للمدينة وجود شباب يتدرّبون على حركات ورقصات مستجدّة، من غير أن يسمعوا كثيرًا من عبارات السّخرية والاستهزاء والاستهجان.
يقول: "كان الرّاقصون الذّين سبقونا، ثمّ نحن ثمّ الذّين أتوا بعدنا، ملزمين بأن نثبت للنّاس، بمن فيهم بعض المحسوبين على الأفعال الثّقافيّة، أنّ الرّقص المعاصر فنّ وليس تفسّخًا. وأنّ ممارستنا له وإقبالنا على ما يرتبط به من ألبسة وأنماط عيش، لا يقتضي بالضّرورة انسلاخنا من نسيجنا الاجتماعيّ والثّقافي والحضاريّ، فنحن نصلّي ونصوم ونصل الأرحام وندرس بشكل جيّد ونشارك في الأعمال الخيريّة، بل إن ألسنتنا أقلّ استعمالًا للكلمات البذيئة من ألسنة غيرنا. إنّنا لا نرى تعارضًا بين انتمائنا الدّينيّ والاجتماعيّ وخياراتنا الفنّيّة".
ويعترف محدّثنا بكون خياره الفنّي جعله في مواجهة يوميّة مع الشّارع، فكان محتاجًا إلى اكتساب آلياتٍ ومعارفَ تُمكّنه من الإقناع، فاختار دراسة علم النّفس في الجامعة، حيث يحوز فيه شهادةً عليا. يقول: "إذا كان الرّاقص المعاصر في الفضاء الغربيّ مطالبًا فقط بالتّكوين والإبداع، بحكم أن بيئته مهيّئة لتقبّله وتذوّق فنّه، ولها في ذلك تقاليد وتراكمات، فنظيره عندنا مطالب بالتّكوين على ندرة فرصه ومنابره، وبالإبداع، بالموازاة مع بذل جهود يوميّة لإقناع بيئته بكونه وفنَّه طبيعيّين، فلجأت إلى دراسة علم النّفس العياديّ، حتّى أتجاوز هشاشتي النّفسيّة أوّلًا، وثانيًا لأكتسب القدرة على الدّفاع عن خياراتي".
تعرّف محدّثنا على واحدة من أبرز وأنشط فرق الرّقص المعاصر في الجزائر هي فرقة (game over)، فعزّز انضمامُه إليها إيمانه بخياره الفنّي. يقول: "مثلما يحتاج الإنسان العادي إلى أسرة تحميه وتأويه، يحتاج الفنّان إلى أسرة فنّيّة تشاركه الشّغف والهاجس والحلم والطّموح، وتحرّك فيه روح المنافسة، فيبقى دومًا على قيد التّكوين والممارسة والعطاء".
ويأخذ بلعمري على المنظومة الاجتماعيّة في الجزائر قصور نظرتها إلى التّكوين الفني، "فهي تفضّل أن يبقى الطّفل عرضةً لأمراض الشّارع واختلالاته، على أن يلتحق بجمعيّة ثقافيّة أو فرقة فنّيّة، فلا تفطن إلّا على انخراطه في الجريمة أو الإدمان على المخدّرات".
كان أوّل تتويج لأسامة عام 2013، حيث افتك المرتبة الثّانية في مدينة برج بوعريريج، ثمّ افتكّ المرتبة الأولى عام 2017 في مدينة سكيكدة، ضمن عرض جماعيّ، فجائزة رئيس الجمهوريّة، في السّنة نفسِها، ضمن فرقة "game over" بقيادة الكوريغرافي صلاح الدّين خالدي المعروف ب"البهجة". وفي عام 2021، ضمن عرض "حبر على ورق" من تصميم الفنّان خالد قشّار.
لم يكن الرّقص المعاصر بكلّ فروعه معروفًا وممارَسًا في الجزائر، إلّا في حدود نخبويّة ضيّقة
ويكشف أسامة بلعمري عن نيّته في فتح عيادة نفسية تقوم على العلاج بالرّقص المعاصر. يقول: "ما نزال في الجزائر وفي الفضاء العربيّ والأفريقي بعيدين عن اعتماد العلاج بالفنون، مثل القراءة والرّسم والموسيقى والرّقص، وآن لنا أن نستغلّ انفتاحات الجيل الجديد لنفعل ذلك".