20-مارس-2024
(الصورة: فيسبوك)

ولد الشاب عبد النور مداحي، بمدينة الشلف، غربي الجزائر، بأدنى حظوظ النجاح، فقد لازمته الإعاقة منذ الولادة، وتوفيت والدته في سن مبكرة، وكاد يعيش مشلولًا مدى الحياة، لولا أن القدر منحه نصف فرصة، ليقف على قدمين مرتبكتين بعكازين.

يقول إيسكو عن العشرين دقيقة الأخيرة قبل الوصول إلى قمة إفرست: العلو الشاهق سبّب لي نقص الأوكسيجين إذ عانيت من الإرهاق الشديد والبرودة فتقيأت أكثر من مرة حتى خُيّل لِي أني سأطرح رئتي خارج قفصي الصدري

فجأة، قرر هذا الشاب الشغوف بالحياة أن ينهض في اللحظة التي ظن فيها الجميع أن كل شيء قد انتهى، فمارس هواية تسلّق الجبال تلك التي قد لا يطيقها الأسوياء خِلقة، وها هو اليوم يحتفظ في خزانته بأحجارٍ كثيرة، يقول عنها ضاحكًا "كلما تسلّقت قمة عدت منها بقطعة حجر، كتذكار جميل على أنها كانت غنيمتي السانحة في يوم من الأيام".    

شيء من غارينشا

عندما انتدب فريق بوتافوغو ريو دي دجانيرو البرازيلي، ذلك اللاعب القزمي بطُوله الذي يتعدى 1.69م، ظل اللاعبون يتغامزون حول الوافد الغريب، الذي كان يعاني من تقوس في القدمين باتجاه الداخل، ومن اعوجاج في العمود الفقري، حتى أن الطبيب الذي فحصه صاح: " يبدو هذا الشاب صالحًا لكل شيء عدا ممارسة كرة القدم".

إيسكو

لكن ذلك الشاب المدعو غارينشا، الذي جانب الشلل جرّاء عيوب خلقية منذ الولادة سرعان ما سينسف، بفضل مراوغة الشيطان التي ابتدعها من وحي إعاقته التي جعلته يرتكز على رجله القاصرة كما عكاز، محررًا رجله اليمنى الأطول من نظيرتها، مشتتًا حركة الخصوم سيفوز بكأس العالم 1958 رفقة بيلي، ثم سينال بمفرده كأس العالم 1962، تلك التي سماها العالم: "كأس غارينشا".

تنطبق أسطورة غارينشا مع قصة عبد النور مداحي (27 سنة) في مواطن عدة، فقد كان عبد النور مولعًا بكرة القدم رغم أنه ولد معاقًا منذ الولادة، لا بل إنه أوشك أن يعيش مشلولًا مدى الحياة، لولاّ أنه أجرى ثلاث عمليات جراحية مكنته من الإفلات من قبضة العطب الشامل.

في عامه الخامس سيُبتلى بفقد والدته في حادث مرور خرج منه بأعجوبة، بيد أنه عثر في شقيقته، سميرة، وهي أستاذة تاريخ وجغرافيا على الملاذ الآمن الذي عوضه فراغ الأمومة، فقد تكفلت برعايته في عائلة من خمسة أفراد، يكشف إلى "الترا الجزائرا قائلا: "لقد كانت شقيقتي السند الذي اتكأت عليه، فليس سهلًا أن تولد معاقًا ثم تفقد أمك، ومع أني كنت ذلك الأعرج الذي يلازمه عكازان، فقد ظلت أختي العكاز المعنوي الذي أوقفني على قدمي الناقصتين".

وكما غارينشا أُولع عبد النور بكرة القدم التي مارسها مع رفاق حي الرادار بمدينة الشلف، ثم تلبّس كنية "إيسكو" لاعب الريال منذ اليوم الذي ارتدى فيه قميص لاعبه المفضل، أما رأسه فكان ينوس بتحديات من نوع آخر، منذ تلك اللحظة التي وعى فيها أن اختلافه عن الآخرين، صار مطية لاحتقاره بالعين، يعترف قائلًا: " كان الناس يشفقون عليّ، جراء إعاقتي، لا بل ينظرون إليّ بدونية، وتلك النظرات كانت تخلف فيّ ألمًا صامتًا. كانوا يعتقدون أني لا أقدر على فعل أي شيء، أما أنا فكنت أكلم نفسي "نعم تستطيع أن تفعل ما يعجز الأصحاء على فعله، زادي الدائم كانت هذه الجملة التي صرت أعلقها مثل قرطين نحاسيين في أذنيّ ".

يبتسم ويضيف: "لو أن الحياة تمنحني تسعة وتسعين عذرًا كي أرمي المنشفة لأستسلم، فلن أترك الحلبة لأن الواحد بالمائة المتبقي فرصة أمل حقيقية، عليّ أن استغلها لأحدد هدفي وأحقق حلمي بلا تردد".

إيسكو

قررتُ أنْ أستطيع

من حسن حظ أيسكو أنه طور ميولًا نحو الطبيعة والمغامرة في مرحلتي التعليم المتوسط والثانوي، كما لو أن القدر كان يتواطأ معه لتحقيق ملحمته الشخصية، فقد توفرت له إرادة نابعة من القلب، يشرح إلى ألترا الجزائر هامسًا: " كنت مولعًا بمغامرات بير جريلز، والوثائقيات الشهيرة لناشيونال جيوغرافيك، ثم شيئًا فشيئًا صرت مدمنًا على مشاهدتها، خاصة وأني تعودت على زيارة المناطق الجزائرية غير المعروفة طبيعيًا وسياحيًا. وفي إبان ذلك ولد في داخلي نداء عميق يحثني على الشروع في مغامرة تسلق الجبال والقمم الشاهقة كي أفرض وجودي".

إيسكو

لا يبدو هنا أن المثل الذي اشتهر به الكاتب الأمريكي ديفيد ماكلوغ والقائل" لا تتسلق الجبال كي يراك العالم، بل تسلقها كي ترى العالم" صحيحا بالنسبة لإيسكو، الذي كان يطمح لتسلق القمم كي يراه العالم، أما أكره كلمة لديه فهي كما يخبر ألترا الجزائر: " يوم كشفت لأصدقاء بأن طموحي هو تسلق قمة جبل لالة خديجة بولاية البويرة، ثالث قمم الجزائر بارتفاع 2308 متر، نظر إليّ بعضهم ببلادة، آخرون ضحكوا، أما جلهم فقد سلقوني بجملة مدمرة " لا تستطيع"، أما أنا فقررت أن أستطيع".

وفي يوم 1 نوفمبر 2021، وقف زملاؤه مذهولين وهم يشاهدونه عبر صفحته في فيسبوك التي دأب فيها التوثيق لرحلاته ومغامراته، واقفًا بعكازيه فوق رأس لالة خديجة، فبدا لهم أن ذلك الجبل العصي على مخيلتهم صار ذليلاً أمام إرادته، متطامنًا برأسه تحت نعلي ذلك المعاق الحالم.

يقول إيسكو في حديث إلى "الترا جزائر" مستذكرًا لحظته التاريخية تلك: "من يريد يفعل، وقد فعلت لأبدد تلك الأحكام التي أرادت أن تدفنني في حفرة اليأس، كنت معاقًا قبل تلك اللحظة ثم ولدت شخصًا آخر من ذوي الهمم، ثم اكتشفت أني صاحب شراهة لتحقيق المزيد من التحديات وكسر أفق التوقعات المخيّبة".

إيسكو

من تاهات إلى الكليمنجارو

صعد صاحب العكازين بعدها، قمة لالة كلثوم بجبل شيليا بولاية خنشلة، ثاني أعلى قمة في الجزائر، بارتفاع 2328، يوم 14 آذار/مارس 2022، ثم توالت فتوحاته تباعًا، بامتطاء تسع قمم جزائرية، واضعًا نصب عينيه أعلى قمة بالجزائر، جبل تاهات بتمنراست.

يتذكر تجربته تلك بكثير من الفخر فيجيش بعاطفته متأثرًا: "يجب أن اعترف بأن صعودي لقمة لالة خديجة كان فرصة ليراني العالم، فاشتهرت بين رواد التسلق والمغامرين والمتابعين، وبسبب ذلك تكفلت وكالة سياحية من عنابة تسمى "تايم أدفنتر ديزاد" برحلة تسلقي لقمة تاهات 3003 م، التي اعتليت ظهرها في 29 آذار/مارس 2023 معلنًا انتصاري على نفسي، وعلى كل الذين قدروا أن عاهتي عبء ثقيل، بينما كنت أرى فيها دافعًا قويًا لتحقيق حلمي، أنا الذي أؤمن بأن المعاق معاق الذهن لا معطوب البدن".

عندما ظهر لأيسكو أن أحلامه كانت أكبر من قمم الجزائر قاطبة، تجلى أن القدر متواطئ معه إلى أبعد مدى، يسمي البعض تلك الخواطر الروحية حظًا، بيد أن الحظ لا يحالف سوى المجتهدين، وفي تلك اللحظة تحديدًا هيأ له القدر امرأة من دولة الإمارات تدعى خديجة، التي أعجبت بقصته أو بالأحرى احترمت إرادته.

عن هذا التفصيل المهم يعقب ممتنًا: " قيّض لي الله جندية من جنوده، تواصلت مع متسلقة عالمية تدعى دانا لأهنئها على صعودها قمة إيفرست بجبال الهيمالايا، فقررت أن تساعدني في تحقيق الضربة الكبرى، بمجرد ما أفصحت لها عن نيتي تسلق أعلى قمة بأفريقيا جبل الكليمنجارو، المرتفع على علو 5898 بدولة تانزانيا، فاتصلت بخديجة التي لم تتوان بدورها في مساندتي عبر تمويل رحلتي من بنك أبو ظبي".

يومها كتب الفتى عبارة: "أنتم ترون أن هذه الصورة صورة عادية، أما أنا فأرى حلمًا يجب أن يتحقق، وما ولدت الأحلام سوى لتتحقق".

إيسكو

إيفرست الحلم النهائي

يتقمص إيسكو بإصرار، دون أن يشعر، شخصية المحامي مارتن لوثر كينغ الذي ناهض الميز العنصري ضد السود بمقولته الشهيرة "لديّ حلم"، كما لو أنه يرمي إلى تحرير ذوي العاهات من اليأس، والأصحاء من وهم الأحكام المسبقة، لذا فلأحلامه أهداف إذا لم تتحقق فهي خيبة، ولكي تتحقق في الطريق عليه أن يتحلى بالانضباط، وأكثر من ذلك بالإصرار، فدون التزام لن يبدأ ما أراد، وبلا إصرار لن يكمل ما بدأ.

يقول عن العشرين دقيقة الأخيرة قبل الوصول إلى قمته، ما يلي " كانت رحلة شاقة ومنهكة، فالعلو الشاهق يسبب نقص الأوكسيجين، وبالضرورة صعوبة التنفس. لذلك عانيت من أعراض كثيرة، كالإرهاق الشديد والبرودة القاسية، فتقيأت أكثر من مرة حتى خيل لي أني سأطرح رئتي خارج قفصي الصدري، وأصبت بنوبة دوار متواترة. بيد أن كل ذلك الألم المصاحب تحول إلى شعور عظيم بالفخر عندما غرزت عكازي في القمة، لأكتب بهما في 23 آذار/مارس 2022، تاريخي بيدي، كأول جزائري من ذوي الاحتياجات الخاصة يصعد أعلى قمم في أفريقيا".

إيسكو

ثم كما أنه ينتقم بطاقته الإيجابية من الإحباط والسلبية دوّن إيسكو كلمة معبرة: "عندما كنت صغيرًا، وبسبب إعاقتي لم أكن مرغوبًا فيه في مدرستي وفي الحي الذي أقطن فيه، ثم بعدها بسنوات، أصبحت محبوب الجزائر كلها".

إيسكو لـ "الترا جزائر": لقد علمتني الإعاقة بأن لا شيء يتحكم في مزاجي غيري، أنا ولا أحد غيري، إن طموحي هو الطريق إلى سعادتي، وسعادتي بين يدييّ، لا بل إنها بين عكازي

لا يبدو أن صاحب العكازين سينهي رحلته هنا، فهو يمارس رياضة تقوية العضلات بصفة مستمرة، للرفع من لياقته وصيانة طاقته الجسمانية، حينما سألته عن الدافع أجاب واثقًا من نفسه: " إن حلمي الآن صار اعتلاء قمة إيفرست، بالنيبال، والجلوس فوق سقف العالم، لكن المأمورية التي تحتاج تمويلا ماديا لن تكون سهلة وليست مستحيلة، لقد فتحت لي أبواب كثيرة قبل اليوم ومن يدري؟ فأبواب السماء مفتوحة للراغبين في إنجاز ملاحمهم الشخصية، لقد علمتني الإعاقة بأن لا شيء يتحكم في مزاجي غيري، أنا ولا أحد غيري، إن طموحي هو الطريق إلى سعادتي، وسعادتي بين يدييّ، لا بل إنها بين عكازيّ".