"لا أزال أتذكرها جيدًا، فصورتها لم تمح من الذاكرة، لقد كانت تتعرض للضرب عندما تفلت من إخوتها الصغار وتخرج من البيت وتتيه في الشوارع"، هي مريضة عقليًا، تجاوزت العقد الرابع من عمرها، توفيت قبل أسبوع فقط بإحدى المدن الجزائرية. قليلون من عرفوا سبب مرضها، والكثيرون ينادونها بـ"المهبولة" أي المجنونة؛ كلمة جارحة يقول سمير. ل؛ شقيقها الأصغر لـ"الترا صوت". فقصة شقيقته الراحلة سعاد طويلة ومؤلمة في آن واحد، "لقد تضررت نفسيًا بسبب وفاة الوالدة، منذ ذلك الوقت صار الشارع مأواها، تعرضت للاغتصاب مرة والضرب مرات ومرات، أما من لا يعرف قصتها فينعتها عادة بعبارات قاسية جدًا"، يضيف المتحدث.
يؤكد مختصون في الجزائر أن أزيد من 30 % من المشردين في الشوارع مصابون بمرض عقلي، في ظل نقص المستشفيات لاستقبالهم
"غادرت الدنيا وأخذت معها أسرارها"، يقول سمير بنبرة يائسة وخانقة وحزينة، فهي شقيقته التي لم تعش كثيرًا، غادرت الحياة بمشهدين أحلامهما مر: "الأول عندما كانت تجوب الشوارع وترمقها النظرات القاسية، والثاني أنها تعرضت للاغتصاب من ذئاب بشرية بلا رحمة ولا شفقة، كم هو مرير أن تفقد عقلك وتفقد شرفك في آن"، يشرح شقيق سعاد.
اقرأ/ي أيضًا: ما هو الاضطراب الوجداني ثنائي القطب؟
"عائلات كثيرة في الجزائر تتخلى عن مرضاها المصابين بأمراض عقلية"، تقول الدكتورة في الأمراض العصبية نورية زعيم، من مستشفى الشراقة للأمراض العقلية في الجزائر، مضيفة في تصريح لـ"الترا صوت" أنه "من الصعوبة بمكان أن تتأقلم وتعتني بمصاب بمرض عقلي، فالتعامل معهم يحتاج إلى أخصائيين وطاقة تحمل كبرى".
كما كشفت المختصة نورية زعيم أن أزيد من 30 % من المشردين في الشوارع مصابون بأمراض عقيلة، لافتة إلى خطورة واقع ملموس يتمثل في النقص في المستشفيات التي تستقبل المرضى عقليًا وهو ما يجعل الكثيرين منهم ضحايا في الشارع، ويفاقم مأساة المصابين بالأمراض العقلية في الجزائر.
وقالت الدكتورة نورية زعيم إن "الجزائر تحصي أزيد من 500 ألف مريض عقلي وهو رقم مرتفع جدًا"، موضحة أن هناك عديد الأسباب التي ألقت بهم نحو عالم "الجنون"، وأهمها الأزمة الأمنية والعشرية السوداء التي كانت مخلفاتها عسيرة جدًا، ثم الكوارث الطبيعية كحادثة فيضانات باب الوادي بالعاصمة الجزائرية في 2001 وزلزال العاصمة الجزائرية وبومرداس في 2003، التي تسببت في صدمات نفسية تحولت مع مرور السنوات إلى أمراض عقلية بحسب المتحدثة.
تحصي الجزائر أزيد من 500 ألف مريض عقلي ومن أسباب هذا الرقم المرتفع الأزمة الأمنية والعشرية السوداء التي كانت مخلفاتها عسيرة جدًا
العشرات من الفتيات اللواتي تعرضن للاغتصاب في فترة الإرهاب في الجزائر، تعرضن للكثير من الضغوطات النفسية بعدما تعرضن لأقسى العذاب خلال تلك المرحلة الدموية في الجزائر، وكانت النتيجة في نهاية المطاف عددًا من الأمراض العقلية التي لحقت بالعديد منهن في الجزائر. فالكثيرات منهن إما تعرضن للاختطاف من طرف الجماعات المسلحة كـ"سبايا" وتم اغتصابهن في الجبال، أو تعرضن للاغتصاب خلال المداهمات الليلية. تقول أنيسة ملاح، عضو جمعية نساء في خطر بولاية عين الدفلى غرب الجزائر، لـ"الترا صوت" إن "هذا الملف يعتبر شائكًا فالكثيرات يعشن الآن على هامش المجتمع وتوقف الزمن لديهن في نهاية تسعينات القرن الماضي بسبب بعبع الإرهاب".
اقرأ/ي أيضًا: نصف المغاربة مضطربون نفسيًا ودعوات لقوانين تحميهم
"في الجزائر، الكثيرون ممن أصيبوا بأمراض عقلية يحملون داخل الأجساد النحيلة والملابس الرثة والمتسخة حكايات تنسينا عالم البشر العاديين"، يقول الطالب الجامعي سليم صاولي، وهو باحث ماجستير في علم النفس في جامعة بوزريعة بأعالي العاصمة الجزائرية، تستهويه هكذا حالات لمعرفة ما وراء إصابات البعض منهم بالمرض العقلي، حيث صرح لـ"الترا صوت" أنه "يشتغل منذ سنتين على موضوع المصابين بالأمراض العقلية في الجزائر"، لافتًا إلى أن "الجزائريين لا يزالون في مرحلة خجل من التوجه للكشف عن أمراضهم النفسية وخصوصًا بعد الصدمات التي تسببها بعض الظروف والأزمات والتي بدورها تتحول في كثير من الحالات إلى أمراض عقلية"، يقول المتحدث. وعبر عن أمله في أن يتوصل في بحثه إلى مخارج وحلول أكاديمية لتأطير ظاهرة المشردين من المرضى عقليا في الجزائر.
على الأرض، وضعت الحكومة برنامجًا للصحة العقلية خلال الفترة الممتدة ما بين 2017 – 2020 يهدف إلى حماية حقوق الأشخاص المصابين بأمراض عقلية ونفسية، حيث كشفت أرقام وزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات الجزائرية عن وجود ألف طبيب مختص في علاج الأمراض العقلية فضلاً عن 1368 أخصائيًا نفسياً في قطاع الصحة و40 مركزًا ووسيطًا لعلاج الإدمان عبر ولايات الجزائر.
اقرأ/ي أيضًا: