يرفع الإعلام من مستوى التّضامن الإنساني حيال القصص والحوادث الإنسانية، ويُسهم في نقلها ومتابعتها، وذلك ما وقع مع حادثة الطفل المغربي ريان، التي أعادت تسليط الضوء مجدّدًا عن علاقة الإعلام والتضامن الإنساني خصوصًا في المناطق النائية في أشكاله المتنوّعة.
عماد بوفليح: إن الطرح الإعلامي في القصص المأساوية يحتاج إلى تعاطٍ حذر ومحكوم بكلمات لا تُشعر الآخر بالخيبة والانكسار
لكن الزّخم الإعلامي الذي عرفته قصّة الصغير ريان، كان له عدّة ارتدادات وانعكاسات على عدّة مستويات، إذ أنه دفع إلى انتقائية إعلامية من بوابة كثافة تناولها ومتابعتها لحظة بلحظة ونقل مختلف المعلومات والصور حولها، واستغّلت الحادثة في عدد من المنصات للترويج للشعائات ورفع نسبة المشاهدة عبر الأخبار المغلوطة، التي أعلنت عن انقاذه أو اقتراب موعد إنقاذه وإخراجه من البئر.
اقرأ/ي أيضًا: الطّفل ريان يُرمِّم الوجدان الجزائريّ المغربيّ المشترك
تناول الأخبار المرتبطة بالأحداث في المجتمع، يشبه كثيرًا لعبة فيها طرفان "نحن وهُم"؛ فالحادثة والفجيعة أيضًا فيها جانبان وهما من وقعت له ومن تأثّر بها، وبالتالي تعطي هذه القصص الفرصة ليعيش الأفراد في حالة من "الكرم والتضامن، وإظهار التعاطف بين الناس".
كيف حدث هذا الأمر؟ سؤال يطرحه أغلبية الناس، مادامت هناك آبار في كل بقاع القرى والمدن، غير أن هناك حكمة من وراء كل ذلك بعيدًا عن الأسباب في ترك بئر مفتوح، وعدم تنمية المناطق القروية والنائية. من هذا المنطلق، تتحدّث الأخصائية النفسانية ليلى طورشي أنه إن ربطنا موت عياش في الجزائر أو ريان بالمغرب بقدَر الله؛ فالموت نهاية محتومة، لذلك فإن معاناة الناس ليس من القدر الذي هو الموت، كما شاهدناه من خلال التغطيات الإعلامية، إلا أنّ معاناتهم أبعد بكثير من ذلك، إذ هي مرتبطة أيضًا "بسبب ما نحن نفعله اتّجاههم أو ما لا نقدّمه لهم".
وأضافت الأستاذة طورشي في إفادتها لـ "الترا جزائر" أن "التّضامن الإنساني هو ناتج عن الحادثة، "ففي لحظات اليأس والخوف والعجز كلّنا نصنع قوس قزح من الأمل والعِرفان والتضامن والتلاحم العاطفي"، كما أشارت إلى أن التضامن بمختلف أوجهه يتمّ عبر "احترام الآخر، في حزنه وتركه يعيش مأتمه أولًا، ثم الإغداق عليه بالحنان والعطف والرحمة المتبادلة".
انتقائية القصص
في الحوادث الإنسانية التي يروّج لها الإعلام، يتّفق البعض على أن هناك تجرّدًا من تبنّي قصة صحافية بوصفها لصيقة بالفاعلين فقط، سواءً أكانت حالة وفاة، أو حادث مرور أو احتراق مصنع، أو اختطاف، ونتيجة لذلك تتحدث الوسائل الإعلامية بصيغة "هم"، أمّا إذا تعلّق الأمر القضايا الإنسانية المرتبطة أساسًا بالمجموعة أو ما يمكن توصيفها بـ"نحن"، لأنّنا في نفس السفينة وفي نفس المجال الجغرافي ولدينا الماضي التّاريخي نفسه، إذن نحن في نفس المركب إما أن ننجو وإما أن نغرق سويا، تقول الصحافية سميّة متيش.
وحول هذه الانتقائية في الأخبار الإنسانية والتضامن الإعلامي، قالت متيش أن من قواعد القصة الإعلامية هي أن ننتقي الأخبار باعتماد الهرم الأهم فالمهم فالأقل أهمية، موضحة بمثال قصة الطفل ريان من المغرب، والتي "فرضت نفسها باعتبار الضحية طفل عمره خمس سنوات عالق دون أكل أو شرب وحتى دون أكسجين تستحق أن تكون خبرًا رئيسيًا وتخصص لها تغطيات وبث مباشر وأخبار عاجلة، إذ توفّر فيها عنصر الآنية"، فيما كان الرأي العام متعطشًا لمعرفة نتائج عمليات الإنقاذ.
عدم إلقاء الضوء على العديد من القصص لحالات مؤلمة لأطفال في بقاع العالم فسّرته متّيش بقولها "إن هناك قصصًا محكومة بعدّة خصائص؛ أولًا تفاصيلها شحيحة وتصل إلى الاعلام منقوصة بسبب الحرب أو في مناطق نزاع سياسي عقائدي، وثانيًا قد يكون الضّحايا الأطفال مقاتلين في صفوف ميليشات وبالتالي قد لا تصل أصلًا القصص رغم زخمها، ومع ذلك على سبيل المثال نهاية العام الماضي قضية مجاعة الأطفال في اليمن كانت خبرًا رئيسيًا في كل القنوات، وقصة محمد الدرة كانت في الواجهة ولازال الجميع يتذكرها".
تشير المتحدثة إلى أن قصة ريان بغضّ النظر أنها كانت في قرية نائية وبسبب تقصير من عائلته أو من الدولة في طمر البئر، إلا أنها لا تخضع لحسابات سياسية، أساسها إنساني وبقيت كذلك إلى حين الاعلان عن وفاته، بينما الحروب في المنطقة تدور منذ عشر سنوات، وختمت الصحفية بقولها إنّ "القصص الإنسانية متراكمة، قد نسمعها ونصل إليها بعد سنوات أو قد لا نسمع بها أصلًا".
السّبق فخّ
في سياق آخر، لفتت القصص الإنسانية المؤلمة في الجزائر بدءًا من قصة عياش في المسيلة وقصص اختطاف الأطفال واغتصابهم وقتلهم، على مدار السنوات الأخيرة، إلى الهوس الإعلامي بالوصول إلى عائلات الضحايا، إذ سقط الكثيرون في فخّ طرح أسئلة عشوائية على الأم أو الأب أو الأقارب وهو ما يتنافى مع أخلاقيات مهنة الصحافة.
وعليه طرح الأستاذ عماد الدين بوفليح من جامعة غليزان غرب الجزائر مسألة إلحاق الأذى النفسي لعائلات الضحايا، وهم في ظرف أقل ما يمكن وصفه بـ"الصعب"، داعيًا في إفادته لـ"الترا جزائر" إلى ضرورة تغطية الأحداث ومراعاة المشاعر الإنسانية لذوي الضحايا في ذلك الظرف الأليم".
وأضاف قائلًا إن الطرح الإعلامي في القصص المأساوية يحتاج إلى تعاطٍ حذر ومحكوم بكلمات لا تُشعر الآخر بالخيبة والانكسار، والتعاطي يذهب نحو إعادة الأمل والوقوف إلى جانب الضحية وأهلها وتقديم شحنة إنسانية تمسح الحزن عليهم، وهذا ليس بسهل للكثيرين ممن لم يخوضوا تدريبات في هذه القصص، كما أضاف.
نفسيا، هناك ما يسمّى "ترك الأطراف تعيش حزنها"، وهو ما لا يُحترم من بعض الوسائل الإعلامية التي ترى في الآخر قطعة خَبرية يجب الحصول عليها، ونشرها وإنهاء وظيفة يومية تارة، أو الحصول على السّبق وإثارة الرأي العام، وكسب متابعات من الجمهور، وهو ما يتنافى مع حقوق الطفل، خصوصا وأن البعض من الأطفال تخيلوا أن "ريان بطل" فقاموا بتكرار العملية تقليدًا له.
نجية سايغي: إيصال الرّسالة يمكن أن يكون بعدة طرق دون انتهاك حرمة التضامن الإنساني
إيصال الرّسالة يمكن أن يكون بعدة طرق دون انتهاك "حرمة التضامن الإنساني"، كما قالت الخبيرة النفسانية من مركز إعادة تأهيل الأطفال بالعاصمة الجزائرية نجية سايغي في حديثها لـ" الترا جزائر" مؤكِّدة أن الكثير من الصور التي تبث في مختلف وسائل الاعلام أحدثت شرخًا نفسيًا للأطفال وعائلاتهم، فالصورة تطبع في الذّاكرة ولا يمكن مسح أي مضامينها ومعناها من ذاكرة الأهل والجيران والحي والبيئة التي يعيشها الطفل".
اقرأ/ي أيضًا:
نهاية مُحزنة.. وفاة الطفل المغربي "ريان"
إنقاذ الطفل ريان.. الجزائريون يتابعون بقلق