تجدد منظمة الصحة العالمية في كل عام الدعوة لاستغلال شهر رمضان للإقلاع عن التدخين، والتقليل من المشاهد التي تظهر تعاطي السجائر في الإنتاجات الدرامية المقدمة، كونها قد تساهم في تشجيع الناس على تعاطي هذه السموم، وبالخصوص في المنطقة العربية، بالنظر لكثرة مشاهد التدخين في المسلسلات العربية، فهل ينطبق هذا الأمر على الجزائر؟.
مشاهد التدخين قد تلصق أيضا بالشخصية القدوة أو الخيّرة في المسلسل، وهو ما يجعل إمكانية الاقتداء بها سهلا
ومع إقرار منظمة الصحة العالمية بتراجع عدد المدخنين في العالم، إلا أن دائرة استهلاكه تبقى مرتفعة حتى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تعتقد أن من بين مسبباته ما تروج له المسلسلات الدرامية، وهو الأمر الذي قد ينطبق على الجزائر حتى وإن كان المنتج التلفزيوني الرمضاني لا يضاهي الموجود في المشرق العربي.
مشاهد كثيرة
من السهل على أي مشاهد عربي ملاحظة كثرة مشاهد التدخين في المسلسلات العربية سواء كانت درامية أو كوميدية، والأمر لا يختلف أيضا عن الجزائر، خاصة وأن مشاهد التدخين قد تلصق أيضا بالشخصية القدوة أو الخيّرة في المسلسل، وهو ما يجعل إمكانية الاقتداء بها سهلا، خاصة وأن أفراد المجتمع يعيشون في هذا العصر حالة من الاغتراب عن تقاليد وعادات البيئة التي يعيشون فيها، مثلما يقول علماء الاجتماع.
ودفع هذا الوضع بمنظمة الصحة العالمية إلى إطلاق تنبيهات كل رمضان لتفادي هذه المشاهد، إلا أن الأمر يظل على حاله، ففي 2005، أحصت المنظمة أنه من بين 14 مسلسلاً تلفزيونياً، التزمت 5 مسلسلات تماما بتطهير مشاهدها من التدخين ومعاقرة الخمور والمسكرات، بينما تفاوتت نسبة مشاهد التدخين في المسلسلات التسعة الأخرى بين مشاهد مكثفة لاستهلاك التبغ وأخرى قليلة لمدخن واحد للسيجار.
وأشار التقرير حينها إلى أن أغلب هذه الأعمال هي مسلسلات مصرية وسورية، وهو أمر منطقي بما أن البلدين يهيمنان على الصناعة التلفزيونية الرمضانية، إلا أن التقرير لا ينفي هذه التهمة على باقي الانتاجات في الدول العربية الأخرى وبينها الجزائر، فعلى سبيل المثال يمكن ملاحظة ذلك في مسلسل شفيقة الذي بث خلال تلك الحقبة.
وفي 2010، عادت المنظمة للتحذير من هذه الظاهرة كونها لم تتراجع، فقد جاء في تقرير لها أنه "من خلال رصدها لواقع الأعمال الدرامية خلال شهر رمضان قد لاحظت، للأسف، الزيادة الرهيبة في الترويج للتدخين، من خلال الزج بمشاهد تعاطي الممثلين والممثلات لأنواع التبغ المختلفة، مما يدخل في إطار الدعاية غير المباشرة للتدخين، ويمثِّل انتهاكاً للاتفاقية الإطارية بشأن مكافحة التبغ التي صادق عليها أغلب بلدان الإقليم. وفضلاً عما يمثِّله ذلك من مجافاة تامة لروح الشهر الكريم، فإنه قد أسهم للأسف في زيادة نسبة المقبلين على التدخين وشجَّع فئات بعينها على التقاط هذه العادة الإدمانية، مثل الفتيات اللاتي بات إقبالهن على تدخين الشيشة مصدراً للقلق الشديد."
والأمر لم يختلف اليوم حتى مع مرور أكثر من عقد على هذا التحذير، فقد جاء في تقرير جديد لمنظمة عام 2021 أنها لاحظت " إسرافا في عرض مشاهد للمدخنين دون أي مبرر، إضافة إلى عدم وجود تحذير على الشاشات من أضرار التدخين في شهر رمضان الذي ترتفع فيه نسبة مشاهدة الأعمال الدرامية، وأن هذه المشاهد ساهمت للأسف في زيادة نسبة المدخنين ".
واقع موجود
وبإسقاط هذه التحذيرات على ما يعرض في الجزائر، يمكن ملاحظة أن الأمر لا يختلف كثيرا، فعلى سبيل المثال تدخين الشيشة انتشر في السنوات الأخيرة بصورة واسعة في الجزائر، بالرغم من أنها عادة صحية سيئة لم تكن موجودة في المجتمع الجزائري، وهنا يمكن إرجاع ذلك إلى المسلسلات المصرية والسورية التي كانت تعرض على التلفزيون الجزائري والقنوات الخاصة وتروج لهذا السلوك، والتي تظهر حتى الشخصيات البطلة مدخنة لـ "الشيشة" مثلما هو الحال مثلا في مسلسل باب الحارة الذي لقي متابعة واسعة من قبل الجمهور الجزائري خلال عرض أجزائه الأولى.
وحتى وإن كانت لا توجد دراسات ميدانية تثبت حجم مشاهد التدخين المعروضة في المسلسلات الجزائرية، إلا أن الطبيب خالد بن طوبال الذي يشتغل أيضا في مجال الصحافة الثقافية أكد في حديثه مع " الترا جزائر" أن "مشاهد التدخين أصبحت تأخذ حيزا كبيرا في الدراما الجزائرية مثلها مثل المسلسلات العربية".
وأضاف محدّث " الترا جزائر" أن "المشهد الدرامي أحيانا يتطلب بث مشاهد التدخين ،ولكن على المخرج أن يشتغل بذكاء أثناء تقديم تلك المشاهد، مثل اختصار المشاهد التي تتطلبها الضرورة الدرامية مع الأخذ بعين الاعتبار الرسالة التي يمكن أن يتركها المخرج من توظيف مشاهد التدخين ، فعلى سبيل المثال المخرج يحي مزاحم تفطن لذلك في مسلسله "البراني" من خلال شخصية الشرطي فاتح الذي ظهرت عليه أعراض تعاطي السجائر والتي ستظهر بشكل صريح في الحلقات القادمة وفق ما أعتقد".
خالد بن طوبال: من الجميل طرح أضرار التدخين في الحوار الدرامي وإعطاء الحلول تماشيا مع تنبيهات منظمة الصحة العالمية
وتابع: "من الجميل طرح أضرار التدخين في الحوار الدرامي وإعطاء الحلول تماشيا مع تنبيهات منظمة الصحة العالمية".
لكن هذا الأمر لم تشتغل عليه باقي المسلسلات، فحتى المخرج يحيي مزاحم لم يمنح هذا الموضوع اهتماما كبيرا في مسلسله السابق "الدامة" الذي حظي بمشاهدات مليونية، حيث ينحصر تحذير المسلسلات الجزائرية في الغالب من تعاطي المخدرات والإدمان عليها، رغم أن أغلب قصص المدمنين تؤكد أن بداية الإدمان على المخدرات انطلقت من تدخين السجائر.
وفي الحقيقة، لا يمكن إلقاء اللوم فقط على المخرجين والمنتجين، فحتى السلطات العمومية تتحمل جزءا كبيرا في هذه الظاهرة، حيث لم تحذر وزارة الصحة الجزائرية ولا مرة من خطر تأثير مشاهد التدخين في التلفزيون على المتلقين، ومساهمتها في زيادة عدد متعاطي السجائر.
كما أن وزارتي الثقافة والاتصال لا تضع ممنوعات محددة للمنتجين والقنوات التلفزيونية متعلقة بمشاهد التدخين، لذلك تبث هذه الأخيرة حتى في التلفزيون الحكومي الذي يمول من قبل دافعي الضرائب الجزائريين.
لم تحذر وزارة الصحة الجزائرية ولا مرة من خطر تأثير مشاهد التدخين في التلفزيون على المتلقين
وهنا يلفت خالد بن طوبال إلى أن " العديد من الدول الرائدة في صناعة الدراما أصبحت تتفادى مشاهد التدخين، وعند الضرورة تضطر إلى حجب السيجارة من المشهد وعدم إظهارها بصورة كاملة، وذلك لتوصيل الفكرة وإظهار أن تعاطي السجائر سلوك منبوذ صحيا".
ويمكن ملاحظة تطبيق هذه الإجراءات في المسلسلات التلفزيونية التركية التي تحظى بمتابعة واسعة في الجزائر وباقي الدول العربية، حيث لا تتضمن مشاهد التدخين بكثرة، كما يتم طمسها في حال وجودها.
أهداف تجارية؟
يعتقد الطبيب خالد بن طوبال أن عرض مشاهد التدخين في المسلسلات الجزائرية يحمل أيضا طابعا تجاريا مثلما هو موجود في الدول العربية، حيث يلجأ لها المخرج بحثا عن الإثارة والتشويق لجلب أكثر قدر من المتابعين بمحاولة تصوير المشهد بواقعية أكثر.
ويرى بن طوبال أن هذه المشاهد تضرب بأهداف منظمة الصحة العالمية عرض الحائط، بل إن المخرج يتفنن أحيانا في تقديم مشاهد شرب السجائر بطريقة غير صحية فقط لخدمة المشهد الدرامي الذي يمكنه أن يستغنى عن ذلك الطرح، من خلال اختصاره في مدة زمنية قليلة أو تجاوزه كليا.
ويرى الناطق باسم منظمة "حمايتك" لحماية المستهلك سفيان الواسع أنه على الجميع التدخل لمنع عرض مشاهد التدخين على الشاشات الجزائرية، مضيفا في حديثه مع "الترا جزائر" أنه برغم معاناته من تعاطي السجائر إلا أنه يعتقد أن من الواجب حجب بثها في التلفزيون بالنظر لتأثيرها على المتلقي، وتشجيعه على الالتحاق بالمدخنين، خاصة لما يلحق التدخين ببعض الشخصيات النبيلة في المسلسلات.
ولا تتوفر إحصاءات دقيقة حديثة حول عدد المدخنين بالجزائر، إلا أن وزير الصحة السابق عبد الرحمان بن بوزيد، صرح في أيار ماي 2021 أن معدل انتشار تعاطي التبغ لدى الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18-74 بنسبة قدرت بـ16.2 % في الجزائر سنة 2017 ، و 8.8 % لدى الشباب الذين تتراوح اعمارهم بين 13-15 سنة في 2013، فيما لا تتوفر إلى اليوم إحصاءات جديدة.
وتشكل الجزائر سوقا مربحة لشركات التبغ، حيث ينفق الجزائريون 2.15 مليار دولار سنويا على التبغ، وفق توقعات موقع فيتش سوليوشنز الصادرة في 2023.
وإن كان قانون الصحة الجزائري يمنع الترويج لمنتوجات التبغ وبث الإعلانات الخاصة بها، وهو تشريع يستحق التثمين، إلا أنه يبقى اليوم غير كاف بالنظر إلى التوصيات التي تصدرها سنويا منظمة الصحة العالمية، والتي تتطلب أن يشمل هذا المنع أيضا المشاهد المعروضة في المسلسلات الدرامية والكوميدية بالنظر إلى أن التدخين أصبح يشكل خطرا على الصحة العمومية لتسببه في عديد الأمراض حتى الفتاكة منها.