"سنلتقي أمام البريد المركزي"، هكذا كان الجزائريون يرتبون مواعيدهم في الجزائر العاصمة، فمن غير الممكن أن تجد جزائريًا يجهل موقع تواجد هذا المعلم، لذلك كان مكانًا للقاء حتى بالنسبة لمن يأتي للعاصمة لأول مرة.
تحولت ساحة البريد المركزي، وخاصة سلالمه، إلى المكان المفضل للمتظاهرين، بل باتت صوت الثورة ومنبرها الأول
كما جعله مكانه الإستراتيجي قلبًا للمدينة، إذ يقع على مرمى حجر من مقر البرلمان وقصر الحكومة، ويطل أيضًا على خليج الجزائر وميناءها، كما يشكل نقطة تقاطع بين أكبر شارعين بالعاصمة، شارع ديدوش مراد وشارع العربي بن مهيدي.
اقرأ/ي أيضًا: تحولات باب الواد.. شاهد شاف كل شيء
من كنيسة إلى متحف
مثل غالبية بنايات مدينة الجزائر، يرجع مبنى البريد المركزي لحقبة الاحتلال الفرنسي، حيث تمّ البدء في بنائه عام 1910، لتنتهي الأشغال به بعد ثلاثة سنوات، ليكون "قصر البريد الجديد". وقد تم إسناد مهمة هندسته للمعماريْن الفرنسيين "جول فوانو" و"ماريوس توندوار"، اللذان صمّما على أنقاض كنيسة أنجليكانية قصرًا شبيهًا جدًا بالقصور العثمانية حيث تعلو المبنى صومعتان جعلتاه يشبه مسجدًا من الخارج، كما تم تزيينه بأقواس في مدخله وزخرفات من الداخل.
يُذكر أن فترة رئاسة "شارل جونار" للحكومة الفرنسية العامة، والممتدة من 1903 إلى 1911؛ تميزت بإعطاء أهمية للفن المعماري العثماني والأندلسي في مدينة الجزائر، كوسيلة للتقرب من سكان الجزائر الذين كانوا يرفضون البنايات الجديدة ذات الطابع الفيكتوري الغربي.
بعد الاستقلال، واصل المبنى مهمته في تقديم الخدمات البريدية للجزائريين، وتم تغيير اسمه من البريد الجديد إلى البريد المركزي عام 1985 قبل أن تصدر وزارة البريد وتكنولوجيات الاتصال عام 2015 قرارا بتحويله إلى متحف للبريد، باعتباره أحد الرموز المعمارية لمدينة الجزائر وتم نقل مركز الخدمات البريدية إلى مبنى أخر ملاصق له فيما يبقى المبنى العتيق معرضًا مفتوحًا للزوار للاطلاع على تاريخ البريد في العالم والجزائر.
معلم الحراك الأبرز
على يمين البريد المركزي، يتخذ باعة الكتب القديمة مكانًا لعرض كتبهم. يشكل هؤلاء جزءًا من هوية المكان. يقول كريم الذي يبيع الكتب هناك منذ سبع سنوات، في حديث لـ"الترا جزائر": "يملك هذا المكان رمزية كبيرة لدى القادمين للعاصمة؛ هنا يلتقط السياح الأجانب أولى صورهم في المدينة، ومن هنا تبدأ جولتهم".
وينبّه كريم لتفصيل مهم، قائلًا: "قبل الحراك الشعبي كان بعض من ألفوا الجلوس هنا يسخرون من شباب يلتقطون صورًا أمام البريد المركزي. لكن اليوم صار هؤلاء يلتقطون صورًا في ساحته كشاهد على مشاركتهم في هذا الحراك ومرورهم أمام هذا المعلم".
يختم كريم حديثه بالقول: "أكره المقارنات، لكن أعجبني كلام أحدهم حين قال إن ساحة البريد المركزي تشبه ميدان التحرير بمصر أو شارع الحبيب بورقيبة بتونس، بوصفهما منطلقًا لما حدث في البلدين خلال ثورات الربيع العربي"
تحولت ساحة البريد المركزي، وخاصة سلالمه، إلى المكان المفضل للمتظاهرين، بل باتت صوت الثورة ومنبرها الأول. وأصبحت تلك السلالم التي كانت قبل 22 شباط/فبراير مجرد مكان يجلس فيه المتسكعون والمتقاعدون؛ القبلة الأولى للحراك، ومزارًا مقدسًا يرتل فيه العاشقون للحرية تراتيل الثورة السلمية.
وتوفر المقاهي المجاورة للبريد المركزي جلسات لارتشاف القهوة أو لأخذ قسط من الراحة وتبادل أطراف الحديث، كما كانت جوانبه تستقطب فناني الشارع الذي يمارسون الغناء والرسم فيه.
ولا يعد التجمع والاحتجاج ليس فعلًا جديدًا على ساحة "لا غراند بوست"، بل كانت دائمًا منطلق حركات احتجاجية، أبرزها وقفات حركة بركات ضد العهدة الرابعة للرئيس السابق بوتفليقة، وكذا اعتصامات رفض مشروع الغاز الصخري، وغيرها من الحركات. لكن الزخم الذي اكتسبه في الحراك الشعبي، منح البريد المركزي تاريخًا جديدًا، بعد أن كانت ساحة أول ماي وساحة الشهداء تختزلان الفضاءات العامة للاحتجاج في تسعينات القرن الماضي.
حلبة صراع
قبل نحو يومين، قالت ولاية الجزائر العاصمة، في بيان لها، إن قرارغلق سلالم مبنى البريد المركزي، جاء نتيجة "قيام الهيئة الوطنية للمراقبة التقنية للبنايات على سلالم المبنى المذكور، وما كشفته الخبرة التقنية عن وجود اهتراءات وتشققات تستدعي القيام بأشغال تهئية وتدعيم تفاديًا لخطر الانهيار المحدق".
يعلق أحد المواطنين ساخرًا من قرار غلق سلالم البريد المركزي بداعي الحفاظ على سلامة المواطنين: "لقد كان أولى بالسلطات أن تغلق البنايات القديمة في القصبة خوفًا على حياة الناس الذين يدفنون تحت أنقاضها".
وكانت صبيحة الجمعة الـ13، مغايرة للأسابيع الأخرى، حيث وجد القاصدون لساحة البريد المركزي سيارات وشاحنات تابعة للأمن الوطني مركونة عند مدخل سلالم البريد المركزي، وتم إعطاء أوامر بمنع الدخول إليها، وهو ما لم يرضخ له المتظاهرون الذين واصلوا الضغط على قوات الشرطة حتى تمكنوا من الصعود لسلالم البريد واسترجاع مكانهم المفضل.
كتب الصحفي والروائي احميدة العياشي، عن الأمر قائلًا: "لم تعد سلالم البريد المركزي مجرد مكان للتجمع وإطلاق الشعارات، بل تحوّلت مع الأيام إلى منطقة رمزية للحرية والتحرر من جغرافية النظام، شكلت منطقة محرّرة، تمّ فتحها شعبيًا وسياسيًا وثقافيًا ودلاليًا، منطقة خارج السيطرة، تلتقي فيها كلّ الأطياف المشكلة لهوية الثورة البيضاء، على منصتها الطبيعية".
ستكون الجمعة الـ14 مبتورة من "منبرها" بعد أن قامت ولاية الجزائر بغلق مدخل السلالم ليلًا باستعمال سياجات حديدية. نفس الممارسة قامت بها السلطة في ولاية برج بوعريريج، أين تم إحاطة المبنى الذي يلقب بـ"قصر الشعب" بسياج لمنع المتظاهرين من الولوج إليه.
ستكون الجمعة الـ14 مبتورة من "منبرها" بعد أن قامت ولاية الجزائر بغلق مدخل سلالم البريد المركزي ليلًا باستعمال سياجات حديدية
هي، كما رآها كثيرون، معركة رمزية بين نظام يريد أن يحرم شعبًا بأكمله من منابر حرة خلقها بنفسه بعد أزيد من 20 سنة من الاختناق، ليبقى السؤال المطروح من طرف الجزائريين، هو: من أمر بغلق سلالم البريد المركزي؟ وما دفعه لذلك؟ ومن عاد لممارسة هواية النظام السابق، أي تكميم الأفواه؟
اقرأ/ي أيضًا: