اضطرت عائلة مستشار التربية عبد القادر لمغادرة منزلها الذي قطنته لسنوات عقب وفاة رب العائلة خلال جائحة كورنا، بالنظر إلى أنه برحيله سقط حقهم بالبقاء في السكن الوظيفي الذي عاشوا فيه طفولتهم وشبابهم، في حالة تتكرر مع كثير من الموظفين الحكوميين في قطاعات التربية والصحة والتعليم العالي وغيرها، جراء رفض الحكومة التنازل عن هذا النوع من المساكن، بالرغم من عدم حصول بعضهم على شقة ضمن البرامج السكنية المختلفة.
مستشار التوجيه والإرشاد المدرسي والمهني لـ"الترا جزائر": من يرفضون الخروج من سكنهاتهم الوظيفية سيحالون على المحكمة الإدارية لاتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم
ورغم ملايين الوحدات السكنية التي بنتها الحكومة، إلا أن مشكل السكن الوظيفي ما يزال مستمرًا حتى اليوم برفض بعض الموظفين رغم تقاعدهم وحصولهم على سكن من الخروج من المنازل الوظيفية، وكذا عدم حصول عمال آخرين على سكن وظيفي رغم أن القانون يكفل لهم هذا الحق ويلزم السلطات العمومية بتوفيره.
لا أمل
بعد رحيل مستشار التربية أحمد، أرغمت عائلته اليوم على استئجار منزل يأوي زوجته وابنه الأربعيني المتزوج، بالنظر إلى أنها كانت متأكدة أن كل محاولات البقاء في بيتهم الذي عاشوا فيه لسنوات ستبوء بالفشل، إضافة إلى وصول إخطارات من السلطات بإخلاء السكن، وهي الإخطارات التي كانت تصل العائلة حتى في حياة مستشار التربية الراحل بالنظر إلى أنه كان بدأ فترة تقاعده قبل وفاته.
ولا يختلف الوضع بقطاع التربية عن حال المنتسبين لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، فكل طلبات التنازل لصالحهم لم تلق القبول من طرف الحكومة، رغم وصول الملف إلى قبة البرلمان بتوجيه سؤال لوزير المالية بداية شهر شباط/فيفري الجاري.
وقال وزير المالية لعزيز فايد إن "السكنات الوظيفية التي يشغلها الأساتذة الجامعيون والتابعة لأملاك الدولة في ظل أحكام المرسوم التنفيذي رقم 18-153, والتي توجد خارج المؤسسات المستخدمة, لا يمكن بأي حال من الأحوال التنازل عنها لفائدة شاغليها، كونها تسير على أساس قرارات منح امتياز".
وبين فايد أن المادة 162 من قانون المالية لسنة 1992 كل تنازل عن السكنات المنجزة بعد تاريخ 31 كانون الأول/ديسمبر 1991، بمساهمات نهائية من الخزينة العمومية لاحتياجات سير المصالح والهيئات العمومية التابعة للدولة والجماعات المحلية.
وأشار وزير المالية أيضًا إلى أن هذا النوع من السكنات التي أنجزت من طرف ديوان الترقية العقارية لمستخدمي قطاع التعليم العالي المحل لفائدة الجامعات وبتمويل من الخزينة العمومية, لا تخضع لأحكام المرسوم التنفيذي رقم 06-208 لسنة 2006 المتعلق بتحويل حق الإيجار، والذي يخص السكنات ذات الطابع الاجتماعي المسيرة من طرف دواوين الترقية والتسيير العقاري التي استفادت منها الإدارات والمؤسسات والهيئات العمومية بموجب أحكام المادة 20 من المرسوم التنفيذي رقم 98-42 لسنة 1998 على أساس عقود إيجار تربط هذه الأخيرة بدواوين الترقية فقط.
غير أن التنسيقية الوطنية للأساتذة الجامعيين لنقابة سناباب اعتبرت أن هذا القرار سيزيد من "توتر و قلق الأساتذة بخصوص ملف التنازل عن السكنات الوظيفية الذي كان بمثابة حلمهم على غرار الزملاء السابقين وخاصة أن الكثير منهم حرموا من مختلف الصيغ السكنية كشرط للاستفادة من هذه السكنات الوظيفية".
وأوضحت النقابة أن "المستفيدين من السكنات الوظيفية لعدة سنوات استنزفت منهم كثير من التكاليف والمبالغ المالية الخاصة بالترميمات والتعديلات، وأصبح الأساتذة اليوم في حيرة على مستقبل أسرهم في حالة التقاعد أو الوفاة في ظلّ شح صيغ سكنية خاصة تستجيب لمتطلبات هذه الشريحة الاجتماعية الهامة".
حق ضائع
رغم أن قانون عدم التنازل عن السكنات الوظيفية يجعل بعض الموظفين الحكوميين يعيشون حالات صعبة عقب تقاعدهم، إلا أنه في الوقت ذاته برأي البعض ضروري لمحاربة ظاهرة عدم مغادرة هذه السكنات، وتركها للموظفين الأولى بها، ففي قطاع التربية مثلَا ما يزال العديد من المديرين والمراقبين العامين محرومين من السكان رغم أن القانون يضمن لهم هذا الحق.
إلى هنا، يقول الثلاثيني محمد الذي ترقى من أستاذ في الطور المتوسط لمراقب عام بالمرحلة التعليمية ذاتها لـ"الترا جزائر" إنه لم يحصل على سكن وظيفي في بداية عمله برتبته الجديدة، بالرغم من أن من حق المراقبة العام في أية متوسطة الحصول على سكن، وذلك بسبب عدم مغادرة موظفين سابقين هذه السكنات.
وينطبق هذا الوضع أيضًا على قطاع التعليم العالي، فقد سبق للأمين العام للمجس الوطني لأساتذة التعليم العالي أن صرح أن مشكل أزمة السكن لدى الأستاذ الجامعي يتحمله الطرفان، الوزارة الوصية والتفكير الريعي لبعض الأساتذة الجامعيين للأسف".
وأكد ميلاط أن "بعض الأساتذة الجامعيين استفادوا من أكثر من سكن في أكثر من جامعة قبل تفعيل البطاقية العقارية، أو أنهم ليسوا في حاجة أصلًا لسكن لكن تفكيرهم بطريقة ربيعية انتفاعية أنانية، جعلتم يسطون بغير وجه حق على حق أساتذة جامعيين هم بالفعل في حاجة ماسة للسكن".
وجراء عدم استفادته من سكن وظيفي، يضطر دكتور للغة العربية بجامعة البليدة للمبيت أيام عمله في الإقامة الجامعية، رغم عمله لأكثر من خمس سنوات هناك، ورغم رتبته العلمية التي تقترب من حصوله على درجة بروفيسور هذه السنة، مبينًا لـ"الترا جزائر" أنه حتى الاستفادة من غرفة في الحي الجامعي ليست سهلة إنما تتم تحت إجراءات بيروقراطية وإدارية كبيرة، رغم أن تحسين ظروف الأستاذ تصب في الأخير في مصلحة الطالب وتحسين المستوى التعليمي في الجامعة.
وعلى المنحى ذاته، تحاول وزارة التربية معالجة ملف السكنات الوظيفية، فقد أوضح مستشار التوجيه والإرشاد المدرسي والمهني يوسف رمضاني لـ"الترا جزائر" أن "وزارة التربية ألغت من خلال مراسلات وجهتها السنة الماضية لمختلف إداراته، كل مقررات السكن الحالية و تعويضعها بمقررات مستخرجة من المنصة الرقمية، وهو ما يعني أن المقررات الجديدة سوف تعطى لمن يستحقها، ومن يرفض الخروج من سكنه الوظيفي سوف يحال على المحكمة الإدارية لاتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم".
وأضاف رمضاني أن القانون واضح في هذا الملف، فكل من يتقاعد أو يغير المؤسسة عليه بإخلاء السكن الوظيفي الذي يشغله، مشيرََا إلى أن توفير السكن الوظيفي في الطور الابتدائي من مهام البلديات، أما في الطورين المتوسط والثانوي فهو من مسؤولية مديرية التربية.
وينطبق هذا الحال من التداخل وضياع حق الموظفين العموميين على قطاعات أخرى كالصحة، وبالخصوص بالنسبة للأطباء المقيمين خلال أداء خدمتهم المدنية في المناطق النائية أو بالولايات الجنوبية، والأمر نفسه بالنسبة للأئمة الذين يكفل لهم القانون السكن الوظيفي في أي مسجد يعينون لإدارته، إلا أن بعضهم يحرم من ذلك ويضطر لأن تصبح مقصورة المسجد هي منزله في انتظار توفير السكن الوظيفي.
ويوجد هذا الخرق للقانون والفكر الريعي في كل مستويات الوظيفة العمومية، فقد صرح مؤخرًا وزير السياحة نور الدين بونوار لـقناة الشروق نيوز الخاصة أنه لم يغادر سكنه الوظيفي بإقامة الدولة بالعاصمة بعد انتهاء مهامه كوزير، بالنظر إلى أن الإقامة هناك لا خسارة فيها، كون التكاليف تكون على ظهر الدولة من كهرباء وغاز وماء.
مقترحات
من المؤكد أن توفير السكن اللائق للموظف سيحسن من أداء الموظف، وبالخصوص لما يكون لدى هيئة حكومية ملزمة ومطالبة بتوفير الخدمة العمومية، بالنظر إلى السكن من مقومات الاستقرار الاجتماعي، ولما له من انعكاسات إيجابية في التقليل من تكاليف الموظف اليومية، كون مصاريف الكهرباء والماء والغاز تكون على عاتق الدولة، وحتى في الحالات التي تكون على عاتق الموظف سينقص عدم التنقل تكاليف على أي عامل.
ومن هذا المنطلق، ترى التنسيقية الوطنية للأساتذة الجامعيين لنقابة سناباب أنه يمكن التنازل عن السكنات الوظيفية مقابل تكلفة إنجازها بالتقسيط، والخصم من الراتب مباشرة، إلى جانب تخصيص سكنات اجتماعية في إطار التعاونيات السكنية عبر ولايات الوطن.
ودعت التنسيقية إلى أن تكون هذه المبادرة سنويا بحصة أربعة آلاف سكن في شكل حي جامعي للأساتذة، بحيث يكون فيه الإعفاء من تسقيف الراتب الذي يحرم فئة الأساتذة الجامعيين من المشاركة فى هذه الصيغة.
وشددت التنسيقية على رفع التجميد عن حصة خمسة آلاف سكن وظيفي مخصصة للأساتذة الجامعيين، وتخصيص قروض بدون فوائد لشراء أو بناء سكنات للأساتذة .
وكان من الممكن على الحكومة أن تتجاوز هذا الإشكال بحلول بسيطة تطبق في قطاعات أخرى، أبرزها تخصيص حصة من السكنات المنجزة ضمن برنامج البيع بالإيجار لبعض الفئات كالأساتذة الجامعيين والأطباء وغيرهم مثلما يتم مع بعض القطاعات الخاصة التي منحت وكالة عدل كوطة لهم عبر مختلف الولايات بالمرور على الهيئة التي يتبعون لها دون الاكتتاب المباشر بين الوكالة والمكتتب مثلما تم مع مختلف المواطنين.
ان من الممكن على الحكومة أن تتجاوز هذا الإشكال بحلول بسيطة تطبق في قطاعات أخرى
قد تكون نظرة الحكومة في عدم التنازل عن السكنات الوظيفية الحل لمعالجة مشكل تمكين بعض الموظفين من حقهم في الإيواء على عاتق الدولة مثل ما ينص القانون، إلا أنه يظل حلًا غير مكتمل الجوانب ما دامت الظروف المؤدية لحاجة الموظف العمومي لسكن بأقل الأثمان مستمرة، والتي لن تنتهي إلا برفع أجور العمال للتناسب مع الضروريات الحياتية من سكن ونقل، أو العمل على تخفيض أسعار إيجار السكنات لتكون في متناول الجميع.