في بيت الحاجة منّوبة، وحين تكون القهوة مسكوبة من إبريق قديم، مصنوع من مادّة الألمنيوم المطليّ بلون أخضر، رُسمت على أجزائه ورودٌ جميلة، فإن الزائر يشعر بأنّه قادم من المستقبل. إبريقٌ يشهد اليوم على مرور جيلين كاملين، تقول الحاجة منّوبة إيدري، ابنة حي سيدي بويحي بولاية ميلة شرقي البلاد، في حديث إلى "الترا جزائر"، مضيفة أن هذا الإبريق ورثته عن والدتها، تبتسم وتردف: "أيّ ميراث هذا الذي يذكّرني بقعدات الكبار في وسط الدار؟"، أي تلك الجلسات التي تتشوّق إليها السيدة منوبة وغيرها من العائلات المتمسّكة بعادات توارثتها أبًا عن جد.
لقد منعت كورونا الشباب من رحلتهم اليومية للبحث عن قهوة في كوب ورقي بالمقاهي الشعبية
فناء الدّار
أجمل الذكريات خلال الأربعين سنة الأخيرة، من عمر السيدة منوبة، وحتى جاراتها اللواتي توارين عن الأنظار بعد رحيلهن من الحيّ، هي "اللحظات التي يتزيّن فيها فناء البيت القديم، في ليالي شهر رمضان، حيث تتوسّطه زربية مصنوعة بالطريقة التقليدية، ورثتها هي الأخرى عن جدتها، وصينية نحاسية توضع فيها فناجين القهوة وكؤوس الشاي على مائدة خشبية دائرية، تؤثّث المكان كرمة العنب وشجرة التين ونباتات الياسمين التي تعبّق نسائمها فناء البيت.
اقرأ/ي أيضًا: ليالي المدن الجزائرية في رمضان.. الحياة مجددًا
هكذا تصف السيدة منوبة، لـ "الترا جزائر" تلك الجلسة الحميمية التي يضفيها إبريق القهوة على المكان، رفقة أهلها وجاراتها، فلولاه، لا يمكن الاستمتاع بأي جلسة خلال سهرات رمضان، خصوصًا في عزّ الحجر الصحّي، موضّحة أنها سعيدة بهذا الإبريق الذي لازال يقدّم لها خدمة جليلة، في عزّ رمضان رغم كل العصرنة التي أزاحت كل ما هو قديم، بوجود آلات تحضير القهوة، إلا أن "حلول الشهر الفضيل، يجعلني أفرح بإبريقي وفناجين الزجاج القديمة" تقول منوبة.
القهوة فنّ
بسيطة لا تكلّف كثيرًا، لكن الحديث عنها شيّق، إذ يتطرّق كثيرون إلى قهوة المناطق الداخلية، حيث يقتنون القهوة المطحونة في آلة الرحى القديمة، فلا تكاد مدينة جزائرية تخلو من مثل هؤلاء التجّار من المحافظين على تجارة الأجداد، هنا، يقول السيّد عبد الباقي بن عبد الرحمن، من حي ميلة القديمة العتيق، أين وُلد وترعرع، إنه لازال يحافظ على "بيت الرحى"، حيث كان كثيرون يأتون إليه لشراء القهوة المرحية، بطريقة تقليدية ودون إضافات تفسد طعمها. بل هناك علاقة وطيدة بين سكان المدينة العتيقة، وذلك المحلّ الذي لازال محافظًا على وجوده، إذ ورثه الأبناء عن جدهم، يقول المتحدّث لـ "الترا جزائر"، رغم ما فعله الزمن بالمنطقة.
يحاول البعض التفنّن في تحضير "المعشوقة السوداء"، إذ يُطهى خليط القهوة بورقات خضراء من نبات "العطرشية"، فعندما يختلط الماء مع تلك الورقات النباتية ذات الرائحة الزكيّة، تمدّ للقهوة نكهة ومذاقًا مختلفين.
قهوة الأجداد
القهوة الرمضانية في الجزائر لها طعم آخر، لها نكهة أخرى، ولها وجه يلين مع ليونة الكلمات التي تحكى في وسط صينية الشاي، القهوة تنحني باستحياء لأنها ترى كؤوس الشاي موزعة توزيعًا محكمًا على صينية من النحاس، بينما الفنجان وحيدا في مكانه".
يعترف كثيرون خلال الحجر المنزلي، بحنينهم إلى الطريقة التقليدية في تحضير القهوة، والنوستاليجا التي أعادتهم إلى رائحة قهوة الإبريق وهو يغلي على نار هادئة، رغم إغراءات الأدوات والآلات المتنوّعة لطهي القهوة، يضاف إليها التنوع الموجود في الأسواق بخصوص فناجين القهوة وأوانيها، غير أن "أقدمها أدومها "على حدّ قول الأمهات.
فنجان قديم ، قِدَم بيت الجدّ رحمه الله، يروي السيد خليل لزعر لـ "الترا جزائر" حقيقة لم تعد خافية على أحد، قائلًا: "الكثير من الرّجال يفضّلون شرب القهوة في المقاهي، رغم المنافسة التي لقيتها الأخيرة، إثر انتشار محلّات بيع شاي الصحراء في عديد مدن الشمال الجزائري، إلا أن وباء كورونا، فرض حظرًا شاملًا على المقاهي وصالونات الشاي، وغابت الحياة عن المدن الجزائرية في ليالي رمضان هذه السنة.
قهوة رمضان في الجزائر في زمن الحجر الصحي غيّرت المشهد، إذ تتفنن النساء في طهي القهوة التي لا يمكن شربها دون إضافة ماء الورد المقطر، حيث تمنحها قطرات من مستخلص تقطير الورد، طعمًا لذيذًا ونكهة خاصّة.
مازالت كثير من العائلات الجزائرية، تتمسّك بعادات وطقوس السهرات الرمضانية، فضلًا إلى ذلك أعادت إجراءات الحجر الصحّي تأثيث جلسات السمر، وعادت معها الانتباه إلى ما فقدته العائلات الجزائرية من عادات في السنوات الأخيرة.
فبعدما كانت الحياة تدبّ في الشوارع والمقاهي، وكانت العائلات تخرج إلى المطاعم والصالونات لارتشاف القهوة، بات اليوم مفروضًا عليها أن تجتمع حول فنجان قهوة يعد في البيت، وتعيد إلى تشكيلتها الاجتماعية نوعًا من الحنين إلى "أيام زمان"، حيث باتت فيها القهوة سيدة السهرة، مع رفقائها من مكمّلات تضفي على مائدة السهرة جمالًا وخصوصية، خاصّة الأواني النحاسية مثل المرش الذي يوضع فيه ماء الورد والسكّرية النّحاسية التي يوضع فيها السكر، وأدوات بسيطة تضفي عليها تغييرات لطالما افتقدتها العائلات في الأيام العادية.
لقد منعت إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، الشباب من رحلتهم اليومية للبحث عن قهوة في كوب ورقي بالمقاهي الشعبية، إذ أجبرتهم على قبول "قهوة الأمر الواقع"، بعد غلق المقاهي ضمن إجراءات مكافحة وباء كورونا، وتدابير الحجر الصحي.
الأمثال الشعبية الجزائرية تشير إلى أن شرب القهوة مع السجائر يجعلك أفضل مرتبة من السلطان في قصره
القهوة والملك
علاقة الجزائريين بالقهوة، علاقة حميمية جدّا، حتى أنّها ارتبطت بأعلى المراتب، فالأمثال الشعبية تشير إلى أن شرب القهوة مع التبغ، يجعلك أفضل مرتبة من السلطان في قصره، حيث توارث الجزائريون مثلا شعبيًا معروفا يقول:" قهوة وقْارو، خير من السلطان في دارو"، وهو ما يوحي أنّ "أجمل لحظات الجزائري هي لحظة ارتشافه لقهوة ثقيلة وبسكر خفيف، وإن وُجد ماء الورد فهي أذواق تختلف من شخص لآخر"، بحسب تصريحات كثيرين .
قهوة "أيام زمان"، التي تُطهى على نار هادئة، تعود بقوة للبيوت في زمن الحجر الصحي، لتُضفي على الجلسات المنزلية متعة التسامر و"الثرثرة الأسرية". هي لحظات مسروقة من زمن السّرعة في كل شيء، لحظات تقوم بترتيب كل شيء في حياة الجزائريين الذين سرقتهم انشغالات الحياة اليومية.
اقرأ/ي أيضًا:
بالصور | المقاهي تعيد الحياة للمدن الجزائرية في ليالي رمضان
مقاهٍ جزائرية.. تثور على ثقافة "اشرب واهرب"