أثارت أغنية دي جي سنايك سجالًا وجدلًا متوقعًا منذ ظهور أوّل إعلان لها، لكن في مقابل ذلك فتحت سجالًا من نوع مختلف جمع بين الجزائريين والمغاربة، حيث أن ميزة التجاذبات التي حصلت كانت في أنها ابتعدت ولو قليلًا عن النقاشات النارية، حتى وإن اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي لتشهد خلاف الطرفين حول ماهية المرجعية الثقافية والتراثية، كون الطابع الغنائي الذي وظفه دي جي سنيك في ألبومه "ديسكو ما غرب" حمل بصمة العلاوي الذي يطلق عليه اسم الرڨادة في المغرب.
يُقصد بالقوة الناعمة أو القوة الذكية، استخدام الوسائل الدبلوماسية من التراث الشعبي والمخزون الثقافي والحضاري والمكاسب الإبداعية المجتمعية كرصيد في إدارة ونسج العلاقات الخارجية
جدل حول التراث غير المادي
استطاع المغني العالمي الفرنسي من أمّ جزائرية، استنفار جمعًا كبيرًا من الجمهور المغربي ليباشروا رفقة الجزائريين نقاشًا حول الطبوع الموسيقية المؤثثة بالطابع العلاوي والڨلال ورقص ما يسمى “الواي الواي"، حيث راحت بعض ردود الفعل لدى بعض رواد المواقع التواصل الاجتماعي من المغرب إلى اعتبار الطابع العلاوي والرڨادة من التراث غير المادي المغربي بشكلٍ محض، بينما كان الرد من طرف الجزائريين بأن طبوع العلاوي والبدوي والمداحات والفنتازيا وغيرها الكثير، تنتمي إلى التراث الذي تتميز به مدن الغرب الجزائري.
من ناحية أخرى، سَبقت هذا السجال، مناقشات ومحاورات عديدة حول الأصول الفكرية للطبوع الغنائية والأكلات الشعبية وحتى الألبسة التقليدية، والطابع العمراني العتيق، وعلى الرغم من حدية المُسَاجَلَة، إلا أن تناول الطرفين مسائل تراثية وثقافية وحضارية من شأنه أن يُقرّب هذه الشعوب، ويُساهم في تهدئة النفوس، لا سميا في استمرار التوتر السياسي القائم بين الجزائر والمغرب.
في الواقع، تُبرز هذه النقاشات أهمية الدبلوماسية الناعمة في إدارة العلاقات الخارجية، بما أنها قد تكون من بين أدوات التفوق والتميز والغلبة، فما هي الدبلوماسية الناعمة، وما هي أدواتها وكيف يمكن أن تكون وسيلة تعبئة وتأثير على مجرى الأحداث المحلية والدولية؟
القوة الناعمة
يُقصد بالقوة الناعمة أو القوة الذكية، استخدام الوسائل الدبلوماسية من التراث الشعبي والمخزون الثقافي والحضاري والمكاسب الإبداعية المجتمعية كرصيد في إدارة ونسج العلاقات الخارجية. تَستمد القوة الناعمة عناصرها الأساسية من تاريخ الشعوب، ومُكونات السُكانية، ومختلف مسارات تَكون وتَطور كيان الأمة أوالدولة، يُعزز ذلك البُعد الجغرافي القطري، الممتد مساحةً، وتضاريسًاوفصولًا وتنوعًا أيكولوجيًا.
يقابل القوة الناعمة مفهوم القوة الصلبة، التي تعني عسكرة العلاقات الدولية، ومن أدواتها القوة العسكرية، العقوبات الاقتصادية والمالية، وقطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية وغلق الحدود.
أدوات القوة الناعمة
تَكمن ميزة القوة الناعمة في مشاركة المواطن والمثقف وكافة الفئات المجتمعية في الدبلوماسية التشاركية أو الشعبية، إذ من شأنها صناعة قوة الدولة، وإبراز مدى تماسكها، والتجانس القائم بين القيادة والقاعدة، وبالتالي تُحولها إلى وسائل التأثير والضغط الدولي، وترويض القوة الصلبة.
فعلى سبيل المثل، فرغم القوة العسكرية الفرنسية، لم تتمكن هذي الأخيرة من إخضاع الجزائريين، مقابل اعتصام الفرد الجزائري بمقومات شخصيته الدينية واللغوية والهوياتية، رغم اختلال توازن في القوة الصلبة بين فرنسا والمقاومات الشعبية والثورة الجزائرية.
إمكانيات مهدورة
تمتلك الجزائر كل عناصر القوة الناعمة، لأن لها تاريخًا حافلًا بالتجارب الإنسانية والتدافع عليها، إضافة إلى الموقع الجغرافي الممتد مغاربيًا وعربيًا وأفريقيًا ومتوسطيًا، ساكنة ديمغرافية ميزتها الانتماء الديني والفقهي والعقائدي المُوحد، ثنائية اللغة وتعايش بين اللسان العربي والأمازيغي المقرر دستوريا، وامتداد جغرافي غني بالتنوع التضاريسي والثقافي والتقليدي والتراثي، إضافة إلى تاريخ ثوري يبرز تمسك المجتمع بالحرية وعدم خضوعه للأجنبي.
مع ذلك، ورغم كل الرصيد التاريخي والجغرافي والثقافي ورأس المال البشري، لم تعمل الجزائر على تفعيل المكونات الذاتية بشكل إيجابي إلا في حدود ضيقة، فعلى صعيد مؤشر القوة الناعمة العالمي لسنة 2022، جاءت الجزائر في المركز 75 عالميًا من ضمن 120 دولة شملها المؤشر.
ومؤشّر القوة الناعمة الصادر عن مؤسسة “براند فينانس”، التي تم تأسيسها عام 1996، يعرفها بأنها “قدرة الأمة على التأثير في التفضيلات والسلوكيات المختلفة للجهات الفاعلة في الساحة الدولية عن طريق الجاذبية أو الإقناع وليس الإكراه”.
ويرى الخبراء في الشأن الثقافي أن الجزائر ورغم الإرث الثقافي بمختلف أشكاله المادية وغير المادية الخصب والمتنوع لم تحظى بالعناية والدراسة والاهتمام وتأسيسه، ماعدا بعض المبادرات الشخصية وليس المؤسساتية، وبحسب موقع وزارة الثقافة عدد العناصر الجزائرية المصنفة في القائمة التمثيلية للتراث الانساني الثقافي اللامادي لليونسكو الى سبعة وهي أهليل قورارة (2008)،ولباس العروسة التلمساني “الشدة" (2012)، والإمزاد (2013) الذي قدم ملفه باسم الجزائر و مالي و النيجر و ركب سيدي الشيخ (2013)، واحتفالية السبيبة بواحة جانت (2014)،والسبوع (احياء المولد النبوي الشريف) بتيميمون (2015).
الحسابات السياسية الضيقة
في السياق نفسه، شكّلت الحسابات السياسية والشخصانية أيضًا عاملًا من عوامل إهمال الجانب التراثي وتفعيله في سياق القوة الناعمة. هنا،يرى متتبعون أن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة تمكن من إعادة الاعتبار إلى مؤسسة الزوايا والطرق الصوفية، حيث استخدم الرئيس السابق تلك المؤسسات الدينية التقليدية على غرار العلوية والتيجانية ضمن القوة الناعمة، لا سيما وأن لي هتان المؤسستان أتباع في كامل العالم وتمتد إلى العمق الأفريقي. مُنَافسًا ومُزَاحمًا في ذلك الجارة الغربية التي عملت أيضًا على بعث السياحة الدينية، كوسيلة لتوسيع البيعة والطاعة السياسية، لكن بوتفليقة اكتفى بمكاسب سياسية ضيقة تتعلق بالوعاء الانتخابي والسياسي.
الفنون الغنائية
تُشكل الفنون الغنائية نافدة الدول والشعوب أمام العالم، وتُصدر وتُعرف واجهة الأوطان، وتقطع عنها النسيان والتجاهل، وقد سجل فن الراي إلى جانب فن الملحون، فضاء لتجاذبات ثقافية بخلفية سياسية بين الجزائر والمغرب، وقد أثار طلب الجزائر (قبل سحبه) تصنيف الراي ضمن التراث العالمي الإنساني حفيظة الأوساط الفنية في المغرب.
ورغم وصول فن الراي إلى العالمية، وقوة تأثير هذا الطابع الغنائي محليًا ودوليًا، لم يتم فعليًا إثراؤه والعناية به، ولم يستثمر فيه بشكل فعال، ويشار هنا، أن عمار كساب، خبير السياسات الثقافية قد صرح سابقًا أن اقتراح وزارة الثقافة الجزائرية يحمل دوافع سياسية.
المساعدات الإنسانية
من جانبه، تسعى الجزائر إلى تقفي أسلوب القوة الناعمة في أفريقيا، فالجزائر عضو فعال في الاتحاد الأفريقي، تسعى إلى تمكين وجودها بقوة في المجلس الأممي، وتُساهم في وضع استراتيجية في تحقيق السلم والأمن القاري، ومكافحة الجريمة المنظمة، وتقديم مساعدات مالية وغذائية للدول الهشة والضعيفة والصديقة.
وتعزيزًا لوجودها القاري، تم التوجه إلى الاستثمار الاقتصادي والشراكة مع الدول الأفريقية، والعمل على تحقيق المصالح المشتركة، وظهر ذلك في خطابات الرئيس تبون الذي أمر بتوسيع وفتح رحلات جوية إضافية إلى عواصم أفريقية، والشروع في تدويل نشاط البنوك الوطنية في أفريقيا، إضافة إلى استثمارات شركة "سوناطراك" في اكتشاف وإنتاج البترول في بعض الدول الأفريقية.
فكرة غير واقعية؟
في مقابل ذلك، يرى مختصون أن أنصار القوة الناعمة ليسوا بالأكثرية مقارنة بمؤيدي القوة الخشنة، في مجتمعات تعتقد أن الفعل الثقافي والسياسي والدبلوماسي عنوان للضعف والاستكانة، وأن العالم اليوم بحاجة إلى قوة صلبة تحافظ على السلم والاستقرار، ولن تسقيم القوة الناعمة إلا بوجود قوة صلبة تحميها، فالصين والولايات المتحدة الأميركية والغرب عموما تَعُدُ قوى خشنة في المقام الأول وليست قوة ناعمة.
تبقى القوة الناعمة في ظلّ النظم الشمولية أسلوبًا غير معتمد وخيارًا مستبعدًا
على العموم، تبقى القوة الناعمة في ظلّ النظم الشمولية أسلوبًا غير معتمد وخيارًا مستبعدًا، فالقوة الذكية في الواقع تحتاج إلى عقل مستقل ومستنير، وتبتغي قوة التنظيم، كما تشترط مشاركة مواطناتية توازن بين البرغماتية والديماغوجية وتقدر بين المصالح والمفاسد القريبة والبعيدة المدى.