"أُصبت بضيق حادٍ في التنفّس، ودخلت المستشفى لمدّة تزيد عن ثلاثة أشهر، لقد زاد من تعقيد حالتي الصحّية انعدام نظام تهوية في المنزل الذي أقطنه، جدّتي كانت تقول دائمًا إنّ البيت الذي لا تدخله الشمس يشكّل خطرًا على سكّانه، وكان يبدو وقتها أنني أعاني من حساسية ما، وفي النهاية، أخبرني الطبيب المتابع لحالتي أنني مصابة بالسّرطان"، هذا ما ترويه السيدة أمينة زيتوني (41 سنة)، وهي على فراش المرض.
أصيب العشرات من سكان الحي الدبلوماسي بالعاصمة بمختلف الأمراض الجلدية والتنفسية
بدأت حالتها الصحّية تتدهور منذ أن سكنت هذا الحيّ الذي شيّد في مطلع الثمانينات، إذ عانت في طفولتها من ضيق في التنفّس والسّعال الحاد والأمراض الجلدية، ولم يتفطن أهلها الذي يقطنون الحي الدبلوماسي بدرقانة، التابعة إداريًا لبلدية برج الكيفان شرق العاصمة، بأنّ الأمر متعلّق بمادة "الأميونت" المستخدمة في بناء المنازل، فسكن القاتل الصامت بين جدران بيتهم لثلاثة عقود. هنا تقول أمنية في حديث إلى "الترا جزائر"، أعرف أنّ "المرض قدر محتوم، ولكن حتّى لليد البشرية دخل في ذلك".
اقرأ/ي أيضًا: في العمارة الجزائرية: حياة مفخخة
إذا عمّت خفّت
الحي الدبلوماسي في العاصمة، هو اسم أطلق على مجموعة من الوحدات السكنية في بدايات الثمانينات، يُخيّل لأيّ شخص يسمع هذه التسميّة، أنه أحد الأحياء الراقية في العاصمة، يقول جمال الدين (46 سنة) في حديث إلى "الترا جزائر"، ولكنّه نشأ وترّبى هنا، وقضى فترة كبيرة من حياته يقطنه، وهو يشكو اليوم من أعراض حكة جلدية تسمّى الطفح الجلدي الدائم، ورغم العلاجات التي وُصفت له من طرف الأطباء، إلا أن الأمر بات مقلقًا بالنسبة له، بل فهو متخوّف من أن يكون حاملًا لأحد الأمراض الخطيرة على حدّ تعبيره.
لقد أصيب عشرات من سكان هذا الحيّ بمختلف الأمراض الجلدية والتنفسية، علاوة عن تسجيل عدّة حالات مصابة بمرض السرطان، رغم أنهم يدارونه، لكن "طفح الكيل" كما يقول عدد من سكّان الحي الذي التقينا بهم، رغم محاولة السلطات إيجاد مخرج لهذه المشكلة، وترحيل سكان الحيّ وعدة أحياء مجاورة له، لأن الحلّ "لايتوقّف عند الترحيل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بل متابعة طبيّة للمصابين أيضًا" يقول أحد أعضاء "جمعية النور" بحي درقانة.
إضافة إلى كل هذا، يقترح البعض ترحيل السكان وتهديم هذه العمارات حتى لا يشغلها غيرهم، خصوصًا أن هناك من أقدم على بيع مسكنه في الحيّ مخلّفًا عائلات أخرى مكانه، إذ يقطن هذا الحي أزيد من 700 عائلة منذ سنة 1985.
بحسب معلومات رسمية استقتها "الترا جزائر"، فإنّ الحي الدبولوماسي من إنجازات الرئيس الأسبق الراحل الشاذلي بن جديد في إطار توسعة الأحياء القريبة من العاصمة الجزائرية، خصوصًا أحياء بلديتي باب الزوّار وبرج الكيفان، إذ تم تجهيزه ما بين ( 1983-1984)، وتم توزيع 1006 وحدة سكنية على العائلات في سنة 1985، غير أن العائلات القاطنة فيه اليوم بعد مرور 34 سنة كاملة، تقدّمت بعدة شكاوى بسبب الأضرار الناجمة عن هذه البنايات.
الخطر قائم
أثبتت بعض التحاليل الطبية، لعدد المرضى من سكان الحيّ، أن سبب الأمراض التي انتشرت بين سكان الحي، سببها الرئيسي المادّة التي صنعت منها الجدران وحتى الأساسات وهي مادة "الأميونت" المسرطنة، أو ما يسمى بـ" الحرير الصخري" إذ تعتبر هذه السكنات صالحة لمدّة لا تتجاوز عشر سنوات، فقط، لأنّها تحتوي حسبه على " معادن تتكون من (سيليكات المغنيزيوم) تستعمل كعازل حراري للمباني، موضحًا أن غبار هذه العوازل خطير جدًا على صحّة ساكنيه.
من جهته، يشدّد المهندس المعماري عبد العالي نفاح بأنّ هذا الحيّ شيّد لإقامة محدودة" معتبرًا ذلك "جريمة في حق الإنسان"، إذ قال لـ" الترا جزائر" أن هذه المادّة التي باتت أحد المواد التي يتمّ بها تجهيز عدة منشآت على المستوى الوطني، وخصوصًا الشاليهات، حيث تشكّل خطرًا على حياة الإنسان؛ أولها كونها بنيت من مواد مسرطنة تهدّد حياة مستعمليها، موضحًا أن هذه العمارات مهدّدة أيضًا بالانهيار والتشققات على مستوى السلالم الحديدية، والتي اهترأت وتآكلت بفعل الزمن، وبفعل الرطوبة أيضًا خاصّة أن أغلبها لا يتعرّض للشمس.
من جهتها، تفيد سكينة سلاحي، المختصّة في طبّ الأنف والحنجرة والأذن، أن غبار الأميونت يضرّ بالرئتين أولًا على مدار سنوات قد تطول لعشرين سنة، موضّحة لـ"الترا جزائر" أن المرض لا يظهر إلا بعد مرور سنوات، لهذا هناك نداءات في الجزائر من جمعيات البيئة وحتى في العالم إلى ضرورة تهديم هذه المباني التي شيّدت بهذه المادّة.
رغم إنكار البعض، إلا أن "الحقيقة لا يمكن إخفاؤها خصوصًا إن تعلقت بالصحّة الخاصّة بالأفراد"، تقول الدكتورة سلاحي، مشدّدة على التزامها بالسرّ المهني بالنّسبة لعدد الحالات التي عالجتها سواءً من الجزائر العاصمة أو من المرضى الذين سبق لها أن تعاملت معهم من مختلف أحياء الشاليهات.
احتجاجات ورسائل
سكان الحي الدبلوماسي، هم إحدى العيّنات فقط من أحياء كثيرة في الجزائر تسكن المباني المشيّدة بمادة "الأميونت"، فضلًا عن شاليهات العاصمة ومدينة الشلف التي شهدت زلزالًا عام 1980، فاضطرت السلطات إلى نقلهم إلى الشاليهات المصنوعة من هذه المواد، لكنّ سكانها مازالوا حتى اليوم يعانون من أمراض عديدة، أهمّها الأمراض التنفسية والأمراض الجلدية وبعض الأمراض السرطانية، بحسب تقارير طبية وبيئية.
كان سكّان أحياء "الأميونت"، في كثير من الأحيان، يرفعون انشغالاتهم إلى المسؤولين، بهدف ترحيلهم إلى سكنات لائقة، ضمن برامج الترحيل التي باشرتها مختلف الولايات في السنوات الأخيرة، غير أن البعض الآن أصبح يطالب بتهديم هذه العمارات نهائيً،ا لأنّها لم تعدّ صالحة لا للسكّان ولا للترميم والتجديد خصوصًا.
بيوت الشاليهات كانت مخصّصة لحل أزمة مؤقتة بسبب الزلازل وتحوّلت إلى مساكن دائمة
من المؤقّت إلى الدائم
يبدو أن قدر الجزائريين مرتبط بعدة ظواهر، لم تستعد لها الحكومة بعد، بل كانت تستخدم لمعالجتها "حلولا ترقيعية فقط"، هكذا يرى الباحث في علم اجتماع العمران عبد الصمد حدادي، في تصريحه لـ"الترا جزائر"، إذ عرّى زلزال بومرداس في أيّار/ ماي 2003 ، واقع الكثير من المشاريع المغشوشة والبناءات الهشّة، وكانت الحلول الاستعجالية التي تكفلت السلطات بها، عبارة عن حلول مؤقّتة، كتشييد عشرات السكنات الجاهزة، مثل الشاليهات، لكنها مع مرور السنوات، تحوّلت إلى أزمة أخرى، لها جانب إنساني وصحّي وآخر بيئي، لم يتمكّن مسؤولو قطاع السكن في البلد تفكيك خيوطه.
اقرأ/ي أيضًا: