وسط بنايات عشوائية إسمنتية الواجهات،ومسالك ترابية وعرة، تتخللها برك من المياه، تنطلق الشاحنات الصغيرة المعروفة محليًا باسم "الهربيل"وتزدحم عند مداخل الحي. أكياس سوداء تكتسح الأرصفة والمكان، وكلاب ضالة تجتمع أمام حاويات النفايات تبحث عن الطعام، حيث يتأهّب بعض قاطني الحي الذهاب إلى العمل صباحًا. يَمر هؤلاء السكان بجانب الكلاب غير آبهين لوجودهم، نحن في سوق الجملة للمواد الغذائية الواقع بمنطقة واد السمار.
يقول أحد الحمّالين لـ "الترا جزائر" إن والده كان يشتغل حارسًا في مؤسسة عمومية وحين توقّف عن العمل لم يكن هناك من يتكلف بمصاريف البيت حيث كانت الحياة قاسية في العشرية السوداء
تحت أسفل البنايات مستودعات حديدية، يجتمع هناك عدّة عمّال يوميين قادمين من الأحياء الفقيرة المجاورة على غرار سيتي حياة، السمار، جسر قسنطينة، الحراش، واد شايح، براقي، باش جراح، المقارية، بحثا عن قوت يومهم.
عمال من مختلف الأعمار، شباب في الثلاثينات أو الأربعينيات في الغالب، تبدو بنيتهم الجسدية نحيفة ولكن عضلاتهم نحتتها قساوة العمل، فهم يقفون طيلة اليوم أمام الشمس الحارقة ويشربون من سمرتها. يرتدون ثياب بالية، وأحذية شبه عسكرية ممزقة. يصطفون في الطريق الرئيسي أو في الأزقة في انتظار تفريغ الحاويات أو تحميل المركبات والشاحنات بالمواد الغذائية.
كان الشاب كمال (35 سنة) الذي صادفناه في الطريق، يبدو أكبر سنًا من هذا العمر بكثير، فقد أنهكته مهنة العتالة أو "الحمالة" كما تُعرف في الأوساط الشعبية، معترفًا في حديث لـ"التر جزائر"، أنه يزاول هذه المهنة منذ 10 سنوات.
يعود كمال إلى زمن التحاقه بمهنة الحمالة، فيقول: " عدما غادرت السجن، لم أجد ملجأً ولا مصدرًا للرزق إلا في السوق الجملة بواد السمار بالعاصمة، هذا هو قدري للحفاظ على ما تبقى من كرامتي، أنا دون سكن، ولكن هذا أفضل منم التسول أو بيع المخدرات".
مهنة صعبة.
"المعيشة ماشي سهلة.. الدنيا الصعيبة" هكذا عَلق مراد، وهو شاب في الأربعينات من العمر، مجيبًا على سؤال "التر جزائر" عن مهنة تفريغ الحاويات وتحميل الشاحنات بالبضائع والسلع.
يمارس مراد مهنة تفريغ وتحميل الشاحنات منذ أن كان صغيرًا، موضّحًا في حديث لـ "التر جزائر" أنه ترك قاعد الدراسة في الطور الابتدائي، فقد نشأ في أسرة فقيرة كثيرة العدد ومازالت كذلك، على حدّ قوله.
وأضاف: "كان والدي يشتغل حارسًا في مؤسسة عمومية، تم فصله من العمل بعدما تحولت ملكية الشركة إلى أحد الخواص"، وتابع "لم يكن هناك من يتكلف بمصاريف وواجبات البيت، كانت الحياة قاسية خلال العشرية السوداء، وكنا نقطن بمركز العبور في واد السمار".
وذكر محدثنا أنه كان قوي البنية رغم حداثة سنه، وبدأ يمارس تحميل المركبات الصغيرة بالمواد الغذائية وبعدها الشاحنات المتوسطة، وبعدها تفريغ الحاويات 20 قدم و40 قدم، معتبرًا أن سوق واد السمار للمواد الغذائية يُشكل مصدرا قوت ورزق للعديد من العائلات، وهناك من ورث مهنة التحميل والتفريغ عن والديه.
وزاد éأعرف أشخاص مارسوا مهنة الحمالة منذ ظهور السوق السمار في بداية التسعينيات من القرن الماضي، لا زالوا يمارسونها إلى اليوم".
النظرة الدونية
لا تقل أهمية مهنة "الحمالة" كما يطلق عليها في اللهجة العامية أهمية عن النشاط البائعين والمستوردين، فنشاط هؤلاء العمال بالغ الأهمية في سلسلة تمويل السوق الوطنية بالمواد وتوزيع السلع والبضائع للمواد الغذائية.
يتطلب هذا العمل الكثير من المثابرة والجهد والصبر والإلحاح، ورصد الزبائن والشاحنات والمركبات والحاويات القادمة. وتشهد السوق أحيانًا تنافسًا كبير بين هؤلاء العاملين خصوصًا حين يشهد السوق تراجعًا في النشاط التجاري.
هنا، يقول أحد الباعة من أصحاب مستودعات المواد الغذائية: "أوظف شخصين من أجل تفريغ وتحميل السلع والبضائع، لكن نحن دائمًا في حاجة إلى هؤلاء الحمالة".
وزاد عكس من يشتغل مباشرة في المحل، فهؤلاء "الحمالين" يشتغلون باكرًا منذ الفجر، تجدهم دائمي الحضور والترصد، ويمكن الاعتماد عليهم في أي توقيت، حتى في المساء وإلى غاية وقت متأخر من الليل لتفريع الحاويات".
ويَقِرُ محدثنا أن هؤلاء العمال لا يتم تقديرهم بشكلٍ يليق بالمجهود والخدمات التي يقدمونها، فهم دون حماية أو رعاية، رغم أن هؤلاء الحمالة دورهم أساسي في سلسلة التوزيع للمواد الغذائية، على حدّ قوله.
وتابع صاحب المستودع، أن نشاط هؤلاء متعب وله تبعات صحية خطيرة، خصوصًا أن العديد منهم يشتغل منذ سنوات دون حماية اجتماعية ولا تأمين صحيّ، وستطرد أن هناك "نظرة دونية من المجتمع لمهنة الحمّالين رغم أهمية هؤلاء المناضلين الذين بدون وجودهم لا يتحرك شيء من مكانه في سوق السمار".
تراجع النشاط التجاري
في هذا السياق، يشهد سوق السمار للمواد الغذائية تراجعًا في النشاط التجاري، حيث تؤكّد شهادات تجار وحمالين يشتغلون به، أن هذا التراجع هو نتيجة تشديد إجراءات الاستيراد على المواد الغذائية، وتسليم رخص الاستيراد للمواد كالبقوليات والحبوب الجافة إلى الديون الوطني للحبوب والبقوليات، الأمر الذي انعكس سلبًا على كافة النشاطات المرتبطة بسوق السمار للمواد الغذائية؛ كمحلات الإطعام السريع ومركبات وشاحنات النقل، وأول ضحايا تراجع النشاط والحركية في السوق هم الحمّالون..
هنا يخبرنا أحد العتّالين أن تراجع الاستيراد أثّر على كثير من العائلات التي كانت وما تزال تسترزق من عمل تفريغ الحاويات، مضيفًا أنه في السابق كان نشاط الاستيراد للمواد الغذائية يعود بالخير على كثير من العائلات التي تنحدر أغلبها من الاحياء الفقيرة والشعبية المجاورة.
وتابع "اليوم، أصبحنا نترصد الحاويات على قلتها ونعرض خدماتنا على المركبات والشاحنات الصغيرة، بينما يرفض المشتري تقديم الخدمة نظر إلى عدم الحاجة إلى مد العون".
وزاد محدثنا تزايد المشاحنات بين الحمالين والسبب تراجع نزول الحاويات في الميناء وتناقص أعداد الشاحنات الكبرى المحملة بالمواد كالسميد والبقوليات، معتبرًا أن كثيرًا من هؤلاء الحمالة من الفقراء يمارسون مهنة دون ضمانات، والآن وبعد تراجع حركية السوق، بات البعض يمارس جمع القارورات البلاستكية أو جمع المواد الحديدية.
تؤكّد شهادات تجار وحمالين يشتغلون في سوق السمار أن تراجع النشاط التجاري كان نتيجة تشديد إجراءات الاستيراد
تركنا سوق الجملة للمواد الغذائية في سوق السمار. مدينة فوضوية خالية من الحركة التجارية، ماعدا مركبات "الهربيل" تصول وتجول في المكان، وبعض الحمالين يترقبون ويأملون وصول شاحنات أو حاويات محملة بالمواد والسلع يقتاتون منها كسبهم، وكلهم أمل أن تكون غنائمهم في العمل أفضل من الأيام السابقة.