في وسط مدينة ميلة شرق الجزائر يقع حي الغالية أو كما ينعته سكان المنطقة بـ "رُوتْ الغَالْيَة"، تسمية أصبحت لصيقة بهذا المكان الذي لطالما شكّل علامة استفهام كبرى لدى أبناء المنطقة، حيث تُطرح أسئلة من قبيل: لماذا سمّي بـهذا الاسم؟ ومن أطلق عليها ذلك؟ ومن هي الغالية؟ هل كانت هناك امرأة غالية على أهلها، لتبقى حية رغم فقدانها؟
الباحثة سمية زراري لـ "الترا جزائر": الأحياء الجزائرية كائنات حية تلخص حياة قاطنيها وتحتفظ لهم بقيم اجتماعية وثقافية متشابهة
لكل اسم حكاية ترويها الجدران، وتعيد بناء قصتها الأسئلة التي بزغت مرارًا وتكرارًا إلى ذهن كثيرين، وما يتمّ تداوله بين ساكنة المدينة الألسن من الكبار والصغار، إذ ردد الطفل أكرم بوحبال (12 سنة) وهو يكلّم والده: "وين هذي الغَالْيَة؟"، خاصة وأن الشارع المؤدي إلى هذا الحي أخذ تسميته الجديدة كباقي أحياء وشوارع المدينة وأغلب المدن الجزائرية تخليدًا لشهداء الثورة التحريرية فنالت " حُومة" أو "حي الغَالْيَة" شرف حمل اسم "الشهيد حسين زروقي"، غير أنه وكما جرت على الألسنة، وحتى الشباب اليوم، بقيت التسمية القديمة لصيقة بالألسن والذاكرة.
من هي الغالية؟
هي امرأة فاضلة من عائلة مرموقة من عرش بْنِي يْدَرْ ، عاش أفراده منقسمون إلى عائلات، وتنقلوا بين جبال الأوراس وجبال البابور على تخوم ولايات باتنة وخنشلة وأم البواقي وجيجل وميلة في الشرق الجزائري، ليستقر بعضهم بمدينة " مِيلاَفْ" أو مدينة ميلة حاليًا.
قبل قرنين من الزمن، تركّزت العائلات المشكّلة من عدّة عُروش (قبائل) على غرار عرش بْنِي فْتَحْ أيضًا في المدينة، وورثت الغالية مساحة شاسعة من الأراضي كغيرها من عدد من أفراد العائلة، فوهبت بعض من أملاكها إلى عدد من الفلاحين والفقراء، ومن كانوا يُقبِلون على المدينة المعروفة بالعلم وارتباطها الوثيق بالحاضِنة الكبرى "حاضرة قسنطينة"، طلبًا للعلم بقلب المدينة العتيقة "ميلة القديمة"، التي أخذت صيتها من أول مسجد بني في الجزائر خلال غزوة الصحابي الجليل عقبة بن نافع للشرق الجزائري لنشر الدين الإسلام، وشيّد الصحابي أبو المهاجر دينار مسجد سيد غانم بالمدينة العتيقة عام 59 للهجرة الموافق سنة 678 ميلادية.
تواترت القصص الكثيرة التي عاشها سكان المدينة العتيقة والتي كانت من بين الحاضنات لمجاهدي الثورة التحريرية، من المجاهدين والمسبّلين، إلا أن المعلومات حول التسمية وحول هذه المرأة شِحّيحة، إذ ذكر السيد محمد المكي وهو أستاذ متقاعد لـ" الترا جزائر" أن هذه المرأة فاضلة وتتسابق لفعل الخير، ما جعل ذكراها قائمة واسمها على ألسن الكثيرين.
اللّافت أنها لم تذكر في أيّة وثائق أو مراجع أو مصادر سوى ما تداوله بعض سكان المنطقة، إلا أنّ قصصًا كثيرة نُسجت حولها، وألف البعض حكايات عن بركاتها إلا أن الغالية ظلّت موجودة اليوم بينهم، وخلدت الأماكن اسمها.
بعد البيت.. "الحُومَة"
على غرار" الغَالْيَة" تظلّ العديد من الأحياء التي ترعرع فيها الجزائريون تحمل الكثير من الذكريات، وتشكِّل لديهم حنينًا إلى الماضي، إذ أن الأحياء هي تلك المساحات الصغيرة، التي ألفها الصغار والكبار، ويحافظون على التسميات التي التصقت بها فصار الأصدقاء يرددون: "نلتقي مساء في الحومة" كإشارة إلى مكان الملتقى، فـ "الحُومَة" باتت عنوانًا قارًا لن يتغير بالنسبة للبعض ممن ترعرعوا فيها وكبروا وتزوجوا وحتى إن انتقلوا للعيش في أماكن أخرى وفي أحياء أخرى وحتى في مدن وبلدان أخرى.
يقول محمد معافة (52 سنة) أصيل حي " السّْوِيقَة" بمدينة قسنطينة شرق الجزائر، إنّ هذا الحي "هو البداية والنّهاية.. هو بداية الصباحات ونعود إليه بعد دوام العمل أو في آخر الأسبوع، ولو للمشي أو الالتقاء ببعض الوجوه التي ألفناها ونشتاق لها".
بالرغم من أن الظروف استدعت منه الانتقال للعيش في المدينة الجديدة علي منجلي، إلا أنه كثيرًا ما تعوَّد على الالتقاء بأصدقائه في المناسبات في حيه القديم أو التواصل معهم عن طريق الهاتف أو وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تعود على القول لهم: "نلتقي في الحُومَة"، وهي كلمة السرّ وتعني أن مكان اللقاء يكون في حي السويقة العتيق.
من شرق البلاد إلى وسطها، فحي باب الوادي بالعاصمة الجزائرية "حُومَة كبيرة" بل هي أضخم حُومَة كما يقول سليم مدُّور لـ"الترا جزائر" فهو الذي ولد وترعرع وتربى وكبر وتزوج في هذا الحي العتيق، الذي يعتبر من بين أكبر أحياء البلاد، يضيف: "الحومة في مخيلتي وفي ذاكرتي هي باب الوادي"، ورغم أنه بلغ العقد السادس وانتقل للعيش في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية، وبالضبط في عين طاية، إلا أن مكان القلب هو باب الوادي ولا غير ذلك، على حدّ قوله.
لا ينفي السيد مدّور أنه عند انتقاله للعيش في سكن جديد شرق العاصمة الجزائرية، التصقت تسمية " الحومة" أيضًا على بيئته الجديدة، وحيه الجديد، لأن مكان الملتقى دوما مع الأصدقاء يكون دوما إما في مقهى " الحومة" أو في زاوية أخرى كجنب محطة القطار أو محطة " الترامواي".
وليد الكَارْتي
الحي أو "الحومة" أو الكارتي" كلها تسميات مختلفة من حيث النطق، وتظلّ بعضها فرنسية، حظيت بشهرتها في عديد المدن الجزائرية، نذكر منها على سبيل المثال في عاصمة الغرب الجزائري وهران نجد حي سيدي الهواري، وحي سيدي سالم في أقصى الشرق الجزائري عنابة، أما الجنوب الجزائري بولاية ورقلة على سبيل المثال لا الحصر، نجد حي سيدي عبد القادر وغيرها من الأحياء التي تعد سرّ مكنون في العديد من المدن الجزائرية.
هذه الأحياء تشبه "الكائن الحيّ" على حدّ ما يفيد به علم العمران، مثلما تقول الباحثة في علم الاجتماع سمية زراري من جامعة قسنطينة لـ" الترا جزائر" فهي "فضاء متحرّك وليس مجرد تجمع للأفراد والعائلات، بل هو يلخِّص حياتهم كاملة، إذ يعرفون بعضهم البعض منذ زمن طويل، ويحملون قيم ثقافية واجتماعية متشابهة ومتقاربة كثيرًا، على حدّ قولها.
كما تضيف الأستاذة زراري بأن الحي ظاهرة اجتماعية تشتمل على مجموعة من العادات والتقاليد تتميز في الكثير من الأحيان عن غيرها في أحياء قد تكون مجاورة لها، وتنسجم في الاتجاهات والعواطف المتأصلة في هذه العادات، وتنتقل بينهم وفيما بينهم من خلال ممارسة التقاليد والطقوس.
مهما تباينت الخلفيات وقيمتها الاجتماعية اليوم، تظلّ "الحُومَة أو "الكَارْتِي" أو الكَارْتْيِي" عامل ثقة يجمع بين السكان والعائلات، إذ ينعتون بعضهم البعض بـ" وْليد الحُومَة" أي ابن الحي.
تختلف يوميات "أوْلاَدْ الكَارْتْي" من حيث الأعمال التي يقوم بها سكانه، ووظائفهم ومهنهم، غير أنّها تلتقي على فنجان قهوة صباحية في بداية النّهار واللقاءات فيما بينهم في أقرب مقهى، أما في المساء وفي السهرة يلتقون حول طاولات لعبة الورق أو الكرة الحديدية أو التّسامر فيما بينهم إلى ساعات متأخرة من الليل.
زوار "الحُومَة" ليلًا هم سكّانها فقط، بل الداخل إليها يشكل بالنسبة لقاطنيها محلّ تهديد وشبهة، بل ويبقى مراقبًا بالأعين حتى يتمّ الكشف عن هويته، لذا فأغلب الأحياء الشعبية المشهورة في الجزائر، يتعارف فيها الجميع، بينما يمكن معرفة الغرباء عن "الحُومَة" بسرعة ويُفعلون يقضتهم بمجرد دخول أيّ شخص ليست له حاجة هناك أو لا يقصد أحد بيوت الحي، ومع مرور الوقت يصبح أقرباء وأصدقاء سكان الحيّ، منخرطين في قائمة طويلة معروفة لدى سكان الحي الواحد.
تشهد بعض الأحياء عمليات ترحيل مستمرة لسكناها بسبب هشاشة السكنات القديمة وتهاكلها، وهو ما يؤّدي إلى نشوء أحياء جديدة مختلفة التركيبة السكانية
بالرغم من ذلك، إلا أن توسع بعض الأحياء المعروفة في المدن الجزائرية، جعل البعض يتحسرون على فقدان حميمية هذه الفضاءات التي شكلت ذكرياتهم في تلك الأزقة الضيقة، فضلًا على ذلك، تشهد بعض الأحياء عمليات ترحيل مستمرة لسكناها بسبب هشاشة السكنات القديمة وتهاكلها، وهو ما يؤّدي إلى نشوء أحياء جديدة مختلفة التركيبة السكانية والثقافات، ويظل ذلك حديثًا مطروحًا في نقاشات المجتمع الجزائري.