لم يعد مطروحًا للنقاش في الفضاء الجزائري، إلا في حدود ضيّقة جدًّا، عمل المرأة، بغضّ النظر عن سنّها، سواء بشكل حر أو في المؤسسات العمومية أو الخاصّة، بالنظر إلى جملة من التحوّلات التي عرفها الاقتصاد الجزائري. وتبعًا لهذا تغيّرت نظرة الجزائري إلى بعض المهن، فانتقلت من مقام الازدراء إلى مقام العادي.
معظم عاملات النظافة لا يحظين بالتأمين في شغلهن، ويتقاضين رواتبَ متذبذبةً من السّكان وأصحاب الفضاءات التي ينظفنها
من ذلك، اشتغال المرأة في تنظيف العمارات والمحالّ التجارية والمؤسسات التربوية والإدارات الحكومية، "المهم أن هناك لقمةً مضمونةً في نهاية الشهر، فالعيب ليس في الشغل، بل في البقاء تحت رحمة الحاجة"، يقول عماد الدين، الذي اعترف لنا أنه كان لا يتقبّل ذلك في السّنوات السّابقة.
اقرأ/ي أيضًا: نساء التهريب المعيشي في المغرب.. "الإذلال" كمهنة
معظم هؤلاء النساء لا يحظين بالتأمين في شغلهن، ويتقاضين رواتبَ متذبذبةً من السّكان وأصحاب الفضاءات التي ينظفنها، رغم حاجتهن إلى ذلك. فيهن، كما سنرى، العجوز المسنّة والمرأة المتوسطة والفتاة الشابة. تقول الخالة مسعودة، 49 عامًا، "لا أتصوّر أن امرأة تملك موردًا يضمن لها قوت يومها، تقبل أن تكون منظفة عند الآخرين، فالأمر متعب وجالب لمشاكلَ كثيرة، منها التحرّشات الجنسية والكلام المشوّه والأمراض المترتبة عن طبيعة الشغل والإهمال الذي قد يمسّ بيتها، في ظلّ غياب من يخلفها فيه".
تقول لـ"الترا صوت" في لحظة اعتراف حزينة: "كنا نقيم في منطقة مفتاح، شرق الجزائر العاصمة، وكان خضوعنا لوضع تسوده الحاجة وقلة الشغل، دافعًا لنا إلى الانتقال إلى أطراف مدينة بودواو، لنخدم أحد مالكي الحقول، فأعطانا بيتًا صغيرًا معزولًا، وبقرةً نحلبها وراتبًا نستعين به على شهرنا، ثم فجأةً مات زوجي بسكتة قلبية، فوجدت نفسي مع صغاري الثلاثة أمام المجهول".
"كانت عودتي إلى مسقط رأسي، تعني تشنجات جديدة مع إخوتي، فهم جشعون ورفضوا أن يمنحوني حصتي من الإرث الذي تركه والدي، ذلك أن السّائد في أسرتنا استبعاد الأنثى من ذلك، وكان بقائي في بيت معزول داخل الحقول مفتوحًا على مخاوفَ كثيرة، منها أن أتعرض وصغاري لهجمات الشباب المتهورين الذين كانوا لا يجدون حرجًا في أن يأتوا مساءً ليحشّشوا ويشربوا الكحول عند أطراف الحقل، غير أنه كان مفروضًا علي أن أبقى، لأنني لا أستطيع تأجير بيت داخل المدينة".
في هذه الحالة، تقول الخالة مسعودة، قرّرتُ أن أتخلّى عن حيائي وأخرج للبحث عن عمل، فلم أجد أمامي إلا تنظيف العمارات. تضيف: "أتيحت لي في البداية أربعُ عمارات، أنظف الواحدة منها مرتين في الأسبوع، مقابل 5000 دينار جزائري في الشهر، ما يساوي 130 دولارًا أمريكيًا في السّوق السّوداء. وكان علي أن أصحب ولديّ إلى المدرسة أوّلًا، وأصحب طفلتي إلى الشغل، لأنني لا أستطيع أن أتركها وحدها، بكل ما يترتب عن ذلك من متاعب لكلينا، خاصة في موسم البرد".
اقرأ/ي أيضًا: أم خليل القصّابة.. تتحدث عن "مهن القسوة"
تذهب محدّثتنا بعيدًا في وصف حالتها، فتقول إنها لم تكن ترى نفسها إنسانةً عاديةً، "بل وجعًا يصعد في سلالم العمارات، من غير أن ينتبه إليه أحد، إلى درجة أن بعضهم يصدون الأبواب في وجهي، حين أطلب منهم الماء للتنظيف أو أسألهم أن يوفروا غرضًا يقتضيه شغلي، فالسّائد أن المرأة المنظفة يجب أن تبقى معزولةً عنهم، حتى لا تنتهك خصوصياتهم، وليت الأمر توقف عند ذلك، بل إن بعضهم راحوا أيضًا يتماطلون في دفع مستحقاتي".
الخالة مسعودة، عاملة نظافة في إحدى العمارات: "نحن وجع يصعد في سلالم العمارات، من غير أن ينتبه إليه أحد"
"كلّ دينار يتأخر، يعني بالنسبة لي أن يجوع أطفالي أو يُحرموا من حاجة ما، وهذا ما لا تستطيع أم أن تتقبّله، ممّا جعل علاقتي بالسّكان متشنجةً أحيانًا، فما معنى أن أزهد في التسوّل لأجد نفسي أتسوّل حقوقي، من بشر يتنافسون في الوصول إلى المسجد؟ ما معنى أن يمرّ علي أحدهم بقفة مدججة بأغراض كمالية، في الوقت الذي يكتفي فيه أطفالي الثلاثة بالخبز والحليب، بسبب أنه لم يدفع لي حقي؟".
ولئن كان رضوخ الخالة مسعودة للشروط القاسية التي يتسم بها هذا الشغل مبررًا تمامًا، بالنظر إلى صغر أطفالها، فهل كان الأمر كذلك بالنسبة للخالة مريم في منطقة عين تموشنت، 500 كيلومتر غربًا؟ صادفناها راكعةً على دلو الغسيل، في قاعة للأنترنيت، وهي لا تكاد تحمي نفسها من السقوط، فملامحها المزروعة بوشم أزرق، ينافس زرقة شرايينها البارزة، تدلّ على أنها تجاوزت السبعين.
"أخاف أن أحكي، لأن زوجة ابني ستعاقبني، بحجة أني شوهت سمعة الأسرة بذلك. هل ستضع صورتي يا ولدي؟ هي عاملة وابني كذلك، وليس لهما إلا طفل واحد، أي أنهما في غنًى عن المال الذي أوفّره بهذا الشغل الذي أنهك شيخوختي وأهانها، لكنهما جشعان ولا يشبعان من المال". تشرح وجعها: "يفرضان علي أن أشتغل بعيدًا عن المسكن العائلي، حيث لا يعرفني السكان الذين أشتغل عندهم، فأنا أستعمل الحافلة للوصول إلى هنا، ولولا كرمهم معي، بأن يطعموني ويوفروا لي القهوة التي لا أستغني عنها، لكانت مأساتي أكبر. هل تستطيع أن تتصور وجعي حين أرى المال الذي أحصّله، يذهب إلى كنتي لتشتري به لباسًا لها وماكياجًا؟".
في السّياق، تمثّل "رفيقة" حالة الفتاة المطلقة التي يصعب زواجها من جديد، "كما يصعب اعتمادي على أسرتي في عيشي، خاصّة أن ظروفهي المادية ليست بخير، وهو ما اضطرني إلى أن أشتغل منظفة لدى طبيبين ومحل لبيع الأجهزة الكهرومنزلية، ومشكلي العويص في هذا هو التحرش الجنسي بي، إذ من الصعب أن أرى الآخرين يختصرونني في جسدي، ويغفلون عن روحي وعقلي". وتختم: "لا أستطيع أن أخبر إخوتي بما أتعرّض له، لأنهم سيرغمونني على المكوث في البيت، كما أنهم سيعاقبون الجناة، فألجأ إلى الصّمت ومحاولة تفادي الأمر بطرقي الخاصّة".
اقرأ/ي أيضًا: