إلى وقتٍ قريب، لم تكن فكرةً التخييم في البرية شائعة كثيرًا في الجزائر، إذ اقتصر الأمر على بعض المبادرات الفردية لمغامرين شباب دون تأطير جمعوي أو تنظيمي من طرف الوكلات السياحية، وربما كان للأزمة الأمنية في البلاد تأثير قويٌّ على هذا النوع من الهوايات امتد لعقود من الزمن، وارتبطت المناطق الجبلية في العقل الجمعي، بالجماعات المسلحة في فترة التسعينات إلى غاية مطلع الألفية الثالثة، وكان التوغّل في أحراشها ضربًا من المغامرات غير محسوبة العواقب.
تُطارد النساء اللواتي يقمن برحلات التخييم في الغابات هاجسًا خفيًا يجمع بين إثبات الذات والتمتع بالطبيعة العذراء
مع عودة الاستقرار إلى البلاد واستتباب الأمن، بدا وكأن الشباب الجزائري انتبه أخيرًا إلى السياحة الداخلية، فظهرت جمعيات تهتم بإقامة الحفلات في الصحاري البعيدة والتخييم في الأدغال العميقة، ولم يعد الأمر مقتصرًا على الرجال والمغامرين فقط وامتد ليشمل النساء والشابات المغامرات.
"ثوقر"، "روح الجبل"، "جوّالة الأوراس"، "أرز الأوراس"، جمعيات ناشطة في مجال التخييم وتسلق قمم جبال ولاية باتنة، شرق الجزائر، لكن اللافت أنها صارت تضم كثيرًا من النساء والفتيات المداومات على الخرجات الرياضية والسياحية كل أسبوع، لا بل يجلن ربوع البلاد الجزائرية للاستمتاع بالطبيعة واستكشاف الغابات، كما لو أنّهن يُسهمن في تأنيثها بعدما ظلت لسنوات طويلة "مناطق محرمة" لا على النساء فحسب، بل على الرجال أيضًا. وفي المحصلة النهائية تبرق هذه الظاهرة للعالم رسائل إيجابية عن المرأة المبادرة، والأهم أن الجزائر بلاد آمنة حتى في غاباتها المتوحشّة.
ظهر الغول
تُداوم عنفوان فؤاد، وهي شاعرة في جعبتها دواوين شعرية عدة، بينها "غودو يأكل أصابعه"، على الخروج من حين إلى آخر، لتتفسح رفقة زملائها بجبال حظيرة بلزمة بباتنة الممتدة على مساحة 26.000 هكتار. سمح لها ذلك كما تقول لـ"الترا جزائر" أن تعرف الجغرافيا المحيطة بها: "فليس معقولًا أن يعيش إنسان في مكان ولا يعرف عنه شيئًا،وهكذا صرت أعرف أسماء ما يقارب أربعين جبلًا، بدءًا بتيشاو غربًا وانتهاء بالمحمل شرقًا".
انخرطت عنفوان في جمعية تخييم منذ سنوات، جمعت خلالها لوازم التخييم والألبسة الملائمة، شراءً من محلات ما فتئت تستثمر في سوق التخييم، بجلب معداته من الخارج عبر تجار الشنطة أو الباعة المعتمدين.
توضح الشابة دافعها العميق للتجوال الجبلي بثقة: "غالبًا ما يرتبط الجبل بالخوف كما ترتبط الغابة بالشرّ، حتى ترسّخ لدينا منذ الصغر الخوف منهما، فهي مواطن الوحوش والذئاب والأغوال واللصوص، وازداد الوضع سوءًا خلال سنوات الإرهاب بأن صارت معاقل الحياة هذه معاقل للموت وأمراء الإرهاب، كنت مترددة بعض الشيء في أول مغامرة لي عندما خرجنا مع مجموعة من الرفاق إلى قمة جبل الرفاعة 2178 متر، فأكبر عامل كان مشجعًا لي هم الأطفال الذين كانوا معنا".
تستطرد: "مع مرور الوقت والمشي وسط الأدغال، كنا لا نسمع سوى زقزقة العصافير ورفيف طيور القرقف المحلي، وحفيف الأشجار وصوت الريح وخوار البقر الشارد، فانتابنا شعور مخالف تمامًا، إذ لم تعد الغابة جحيمًا متربصًا، بل جنة مغرية على المكوث فيها واكتشاف أعماقها، بعيدًا عن ضجيج المدن ودخان عوادم السيارات، و ذلك السكون يجعلك تحاور ذاتك، أما حينما وطئت قدماي قمة الجبل الذي كان فيما مضى عامرًا بالجماعات المسلحة، فقد أحسست كما لو أنّي كسرت ظهر الغول، غول الخوف".
تطارد النساء اللواتي يقمن برحلات التخييم في الغابات هاجسًا خفيًا؛ هو تحقيق المتعة المزدوجة، إثبات الذات والتمتع بالطبيعة العذراء، تمامًا كما يفعل الرجال، لا بدافع التساوي والمجاراة، فأغلب المُمارِسات يرفضن هذا التنميط الجندري، ويُدافعن عن فكرة ثابتة هي التمتّع بالصفاء الروحي والفيزيولوجي الذي توّفرة الطبيعة الأم حقٌ لكل إنسان، ثم التدرّب على الجرأة وتحدي الصعاب والانتصار على الخوف الراهن والمخاوف المتوقعة، أو كما توجز عنفوان، الكاتبة المتخصّصة في شعر التانكا والهايكو والهايبون اليابانيين، ويعني الأخير أدب شعر الرحلة، مقتبسة جملة شهيرة للكاتب الأمريكي ديفيد ماكلوغ: "لا تتسلق الجبال كي يراك العالم، تسلقها كي ترى العالم".
المغامرة دواء الروتين
قبل ثلاث سنوات، لم تكن سامية عايشي( 51 سنة)، تتوقع أن تُحدث انقلابًا مذهلًا في حياتها لم يتوقعه أحد. مارست هذه المرأة كرة اليد والسباحة خلال مرحلة التعليم الثانوي، ثم امتهنت بعد تخرّجها من جامعة الحاج لخضر بباتنة شرقي البلاد، عملًا إداريًا قارًا في مستشفى باتنة على مدار عشرين عامًا، وبحلول العام 2019 قررت أن تأخذ فاصلة تفكير قبل أن تضع نقطة النهاية، وتبدأ سطر قصة مختلفة تمامًا، تقول لـ"الترا جزائر" إنه "يبدو الأمر ضربًا من الجنون، قررت بعد مسار مهني قار أن أقدم استقالتي من العمل دون حقوق، لأتفرغ لحياتي بالطريقة التي أريد. وطبعًا ولكوني عزباء تعيش تحت رعاية الوالدين، فقد كان الأمر مساعدًا لي على ترك عملي، لكن مهما يكن من أمر فأنا حالة ماثلة أمامك لامرأة قرّرت في لحظة أن تستقيل من العمل لتتفرغ للحياة، حياة أملك فيها الوقت للاستمتاع بالوقت".
أول ما قامت به سامية بعد الاستقالة هو التسجيل بالمدرسة القرآنية لمسجد أول نوفمبر بباتنة، ثم ممارسة التصوير الفوتوغرافي، وأخيرًا التفرغ للتجوال والتخييم الجامعين بين الرياضة والسياحة.
من غير المعقول، تستطرد المتحدثة "أن نعمل طوال اليوم من أجل الأكل في النهار والنوم سريعًا، في انتظار النهوض باكرًا في تالي يوم، ثم نكرر على مدار أعوام تلك الدورة اللانهائية بينما لا تعود عقارب العمر إلى الوراء أبدًا".
مارست سامية المشي الجبلي بحثًا عن الثلوج في قمة لالة كلثوم بجبل شيليا، ثاني أعلى قمم الجزائر على ارتقاع 2328 متر، ثم قمم وغابات أخرى مثل غابة تيزغبان بسكيكدة والأكفادو ببجاية وبوطالب والواد البارد بسطيف وجبل السرج بالقنطرة ببسكرة، مسترجعة بذلك أيام طفولتها حيث كانت تخيم رفقة والدها بمناطق عدة، و كما لو أنها تسترجع بسرور الذكريات الخوالي تختم " الروتين يقتل البشر يوميًا، وطبعًا فقد سمح لي الاستماع بحياتي الجديدة أن أسترجع حنين الطفولة بوعي أكبر وبمتعة لا تُضاهى، هذا رغم بعض المواقف الخطرة مثل وقوعنا وسط عاصفة قوية خلال تسلقنا قمة جبل ڨريون بعين مليلة، و الحمد لله أن الأمور مرت بسلام في تلك الأمسية التي لا تنسى".
علاج وملاذ
لا تختلف تجربة لمياء كاشة (39 سنة) وهي أستاذة جامعية في الهندسة المعمارية والتخطيط العمراني، بجامعة باتنة، وأم لطفل، في شيء عن تجارب الأخريات حينما يتعلق الأمر بالمحفز، و إن كان لها قصة أخرى يوم ولدت فيها تلك الرغبة الشغوفة، فتعترف في حديث إلى "الترا جزائر" أنه " كان العام 2021 مريرًا بالنسبة لي، توفي أبي وعمّي، كما خطف كوفيد كورونا مني خالين عزيزين، ثم مات أخي يوم ميلادي بسكتة قلبية. الراجح أنها من مخلفات الكوفيد، ومع طروء الغلق و الحظر الذي واكب الجائحة فقد كنت أختنق معنويًا عند دخولي قاعات الرياضة، أنا التي كنت أصاب بالذعار من الأماكن المغلقة، لذا شرعت، في تلك السنة عبر جمعية (جوالة الأوراس) في ممارسة المشي الجبلي والتخييم، لقد كان الأمر بالنسبة لي علاجًا وملاذًا في آن واحد".
تنطوي المغامرة، على بعض التجارب السيئة، مثل المعاناة الأسبوعية مع الفقاعات في القدمين جراء قطع عشرات الكيلومترات، أو الوقوع في أعشاش دبابير في الغابة السوداء في القالة، على سبيل المثال، لكن تلك الحكايات تتحوّل إلى ذكريات فكاهية.
تشارك ليليا أغلب الجولات الجبلية بباتنة وخارجها، لتبقى لحظة تسلقها جبل طاهات أتاكور بسلسلة الأهقار بتمنراست، أعلى قمة بالجزائر بارتفاع 3003 متر، أروع لحظة لديها، فتستطرد "يشبه الأمر تحقيق منجز شخصي، بأنّي عشت لحظة ماتعة في أعلى سقف في البلاد، والأمر لا يخضع للياقة البدنية، بل للقوة المعنوية، ذلك أن المشي والتجوال رياضة تتحقق بالإرادة والشغف القوي".
شغف تستمرّ لتجسيده عبر طفلها الذي تتمناه متسلق جبال في المستقبل، آملة بوصفها مختصة في الهندسة المعمارية أن تتوفر المدن الجزائرية على"فضاء حضري لممارسة المشي وركوب الدراجات لجميع النساء والرجال،وفي أن تشكل هواية المشي الجبلي، وسيلة للدعوة إلى حق النساء في أن يكن حاضرات في جميع الأماكن العامة، بما أنها لم تعد طابو في الجزائر أو في باتنة أين تنشط عشرات الجمعيات".
والشاهد في كلامها أن نساء من باتنة ووهران وبجاية وتيزي وزو، شاركن نهاية كانون الأول/جانفي الفارط في أكبر مخيم وطني بغابة أورير بجبال الشلعلع، بينهن السيدة نزيهة بلاخ وصديقتها صابرينة بولطيف، اللتان أجمعتا لـ "الترا جزائر" قائلتين:" علمنا بالمخيم الذي نظمته جمعية أمراي للسياحة بوادي الماء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فجئنا للمشاركة فيه بخيمتنا ولوازمنا، لممارسة المشي الجبلي والتمتع بالغابة ليلًا ونهارًا، في أجواء منظمة وعائلية، ذلك أن وجودنا كنساء هنا يؤكد بأن الدنيا أمان، و نحن لا نبتكر شيئًا جديدًا هنا، ففي مثل هذه الجبال شاركت نساء مجاهدات، مثل مسيكة زيزا و مريم بوعتورة و فطيمة لوصيف في تحرير البلاد رفقة أشقائهن وأزواجهن الرجال".
زغاريد وعواء ذئاب
لم تكن ليليا حملات (36 سنة) تدري أن حب الطبيعة والتخييم، اللذان كانا وراء تخليها عن العيش في الإمارات العربية المتحدة اشتياقًا لخضرة جبال الأوراس، سيجعلانها تعيش "أسعد لحظة عمرها كأنثى" في أعماق غابة شيليا، الواقعة بين ولايتي باتنة وخنشلة، كما لو أنها أليس في بلاد العجائب. إذ تكشف في حديث إلى "الترا جزائر" أنها تعرفت على زوجي مصطفى عبر الطبيعة، كان شخصًا محبًا ومحترفًا في الحياة البرية والجبال والغابات التي داوم على التخييم فيها باستمرار، لقد تلاقت روحانا معًا، فأحببت فيه ميزة أن يكون مختلفًا عن الآخرين، وطبيعي أن تنتهي علاقتنا بالزواج". زوجها مصطفى يعلق "عرضت عليها أن تكون ليلة زفافنا في أحضان الطبيعة، فأعجبتها الفكرة ولم تعارض عائلتها بل وجدت فيها أمرًا غير مسبوق في الجزائر برمتها".
هكذا تمت دعوة الضيوف وكان أغلبهم من هواة التخييم وتسلق الجبال الذين تقاطروا من عدة ولايات، جهزت النار وشرع في الطبيخ وكان خروفا مشويًا، و إوزات، و هيئ مكان لحفظ الدلاع و المشروبات في مربع بدا كما لو أنه مبرد طبيعي محشو بقطع ثلج جلبت من باعة الأسماك، وعلت الزغاريد المخلوطة بالغناء حتى الصباح، ولم يكن الأمر سهلًا رغم متعته الصرفة. تقول ليليا ضاحكة.
ثمة صعوبات في الأمر، سيكون مختلفًا عن راحة البيوت العادية، يجب أن يكون المرء مستعدًا للنوم فوق أرض غير وثيرة، كما يتطلب جلب المياه من منابع بعيدة في الوديان، لكن في ذلك العناء طعم لذيذ لا يختلف عن مذاق طعام الجبل وهو صراحة أشهى من طعام البيوت، لأنه مطهو على الجمر وبين أحضان الطبيعة".
لم تتوقف ليليا بعد "الزواج الإيكولوجي" كما سمي تندرًا، بل استمرت مع زوجها في جولات التخييم، فتستطرد" أقضي مع زوجي ومن حين إلى آخر، ثلاث ليال في جبل شيليا، الذي تسلقت قمته لالة كثلوم، بمشقة كبيرة ذات مرة، تعلمت تقنيات التخييم وإشعال الموقد الطبيعي، أما عواء الذئاب التي تحاصر خيامنا أحيانًا فلم تعد تخيفني كما أول ليلة لم أنم فيها ذعرًا رغم تطمينات شريك حياتي، بل صارت تطربني فهي جزء من الطبيعة الودودة ومن سنفونية الغابة التي تستيقظ ليلًا".
تبدو هؤلاء النسوة المستقلات بحياتهن محظوظات مقارنة بأخريات لم يتح لهن خوض التجربة المشوقة
تبدو هؤلاء النسوة المستقلات بحياتهن محظوظات مقارنة بأخريات لم يتح لهن خوض التجربة المشوقة، فالمغامرة رندة بولعوينات، (26 سنة) استثمرت تجربتها الطويلة في التخييم، لتؤسّس رفقة أخيها وكالة سياحية توفر تلك الخدمة للعائلات والرجال المبتدئين، ومكمن حظهن أنهن من عائلات تشجع الفكرة ولا تعارضها تحت مبررات الأعراف الاجتماعية والتقاليد. فوراء كل مغامرة عظيمة عائلة متفتحة على التجارب الإنسانية.