لم يكن فوز المنتخب الجزائري بكأس إفريقيا مجرّد إنجاز رياضيّ، بل جاء في ظرف استثنائي بعد سلسلة من الخيبات في كثير من المجالات، وكان الشعب متعطّشًا إلى لحظات فرح، فحاول النظام الجزائري كعادته أن يجعل من ذلك التتويج الشجرة التي تغطي غابة الأزمة، بينما اعتبره الشعب إنجازًا يضاف إلى البهجة التي صنعها الحراك السلمي.
صحف فرنسية وصفت الفريق الجزائري بـ "دكّة احتياط المنتخب الفرنسي" لأن معظم لاعبيه ولدوا وتكوّنوا في فرنسا
عودة محاربي الصحراء بالنجمة الثانية من أرض الكنانة فتح نقاشًا من نوع آخر؛ كانت الأوساط الإعلامية الفرنسية سبّاقة إليه، وهو تركيبة المنتخب الجزائري الذي وصفته صحف فرنسية "بدكة احتياط" المنتخب الفرنسي، أو منتخبًا فرنسيًا ثانيًا، بينما خرجت صحيفة "لوباريزيان" بعنوان لم يستسغه الجزائريون، حين وصفت الأفناك بالمنتخب الذي "صنع في فرنسا"، كون غالبية اللاعبين وأفراد الطاقم الفنّي ولدوا وتكوّنوا في فرنسا، ومنهم من حمل ألوان الدّيكة في الفئات الصغرى قبل أن يختاروا تمثيل الجزائر في المنتخب الأوّل.
اقرأ/ي أيضًا: تصريحات ماكرون تفتح جرح الماضي بين فرنسا والجزائر
هذا الجدل المرافق لتتويج الجزائر، يُعيد مجددًا الحديث عن فئة مزدوجي الجنسية من الجزائريين، هؤلاء المولودون في دول أخرى، أو من زواج مختلط يكون فيه أحد الأبوين غير حامل للجنسية الجزائرية، فئة ارتبطت تاريخيًا بالوطن رغم البعد عنه جغرافيًا، في حين يعتبرهم الدستور الجزائري مواطنين من الدرجة الثانية.
في فرنسا.. قصّة قديمة
قد تكون كرة القدم حاليًا، إحدى أهمّ تجلّيات قضية مزدوجي الجنسية من الجزائريين المولودين في فرنسا، حيث تطفو القضية إلى السطح كلما بزغ نجم في ميادين الساحرة المستديرة، فتبدأ معركة الديكة والأفناك، ويعيش اللاعب بين ضغط عائلي يناشده باختيار الجزائر، وبين وسط فرنسي مشحون يهدّده بمستقبل غامض في حال رفضه تمثيل فرنسا التي كوّنته وأعطته فرص العمل والنجاح.
من جهته، يعتبر القانون الفرنسي أيّ شخص ولد في الأراضي الفرنسية، مالكًا لكل الحقوق التي يكفلها القانون الفرنسي، دون أن يكون الفرد مطالبًا بالتنازل عن أيّة جنسية أخرى يحملها، بحكم انتماء الوالدين أو أحدهما إلى بلد آخر، إنها معركة يتصارع فيها الدم مع التراب. بل في أحيان كثيرة يعتبر اليمين الفرنسي المتطرّف هؤلاء بمثابة حصان طروادة داخل الكيان الفرنسي.
في عام 1989، انتقد جان ماري لوبان زعيم التيار اليميني المتطرّف في فرنسا، تعاطي القانون الفرنسي مع مزدوجي الجنسية، ووعد بسنّ قانون صارم في برنامجه للانتخابات الرئاسية عام 2007 يحدّ من هذه التسهيلات.
منذ ذلك الحين، تبنّت ابنته مارين لوبان هذا الخطاب، فهي الوريثة الشرعية لهذه "القومية المغلقة" التي تحاول بناء جدار بين فرنسا وبين فئة لا يمكن أبدًا إنكار مساهماتها في تطوير فرنسا، في ميادين عديدة كالفن والطبّ والأدب والرياضة وحتى السياسة.
إن مفهوم القومية الضيّق الذي تبنّته لوبان وأتباعها، يقضي بأن يختار فرد جنسيته الرسمية، ويتنكّر مطلقًا للأصل والنسب والخلفية الحضارية والتاريخية والثقافية التي ينحدر منها. هناك من يرى في هذا الفهم صورة من العنصرية والتمييز، نتجت عنها ردود أفعال مضادّة، إذ تتناقص شعبية هذا التيّار وتتزايد حرّية مزدوجي الجنسية ولو نسبيًا.
تهم وشكوك..
في كثير من الأحيان، كان المغتربون الجزائريون الذي يمتلكون الجنسية الفرنسية محلّ نظرات تحمل الكثير من الشّك والريبة، بل كانت الكثير من الأطراف تقدح في وطنيتهم وصدق انتمائهم للجزائر، فالكثير من الأحكام المسبقة تخلط بين الوطنية والشوفينية الضيّقة الناتجة عن ردود فعل خاطئة أو المرتبطة بأحداث معزولة، فالفرنسيون يتّهمونهم بالإرهاب والهمجية في كل سانحة، بينما يكيل لهم بعض الجزائريين تهم الخيانة والولاء لفرنسا على حساب الوطن الأم.
بعد إقصاء المنتخب الجزائري –المكوّن في غالبيته من لاعبين مغتربين - من الدور الأوّل لكأس إفريقيا عام 2017، شكّكت أوساط إعلامية في وطنية هؤلاء اللاعبين واتهمتهم بعدم غيرتهم على بلادهم.
قد يكون الزمان أنصف هؤلاء اللاعبين الآن، ليثبتوا أنهم وكلّ الجزائريين المولودين بديار الغربة ليس لهم أي حاجة لدروس في الوطنية، فالجنسية الفرنسية الجزائرية المزدوجة هي حقيقة موجودة بسبب التاريخ المشترك بين الجزائر وفرنسا، وكذلك الحاضر الذي يفرضه منطق تواجد من 4 إلى 5 ملايين مغترب جزائري على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط.
لقد بدأت قصّة اغتراب الجزائريين في فرنسا في فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وساهم هؤلاء العمال البسطاء الذين قدموا إلى فرنسا للعمل في الورشات والمصانع في ثورة التحرير مساهمة حاسمة، لقد حملت فيدرالية فرنسا آنذاك نيران الحرب إلى قلب باريس، وكان المهاجرون الجزائريون بمثابة الرئة المالية للثورة من خلال جمع الاشتراكات.
بعد الاستقلال، عاشت الجزائر موجات عديدة من المهاجرين نحو فرنسا، ولم يقطع هؤلاء أبدًا الحبل السرّي مع وطنهم. لقد استجابوا دائمًا عندما احتاجتهم البلاد. إنّ الجزائريين، بغض النظر عن مكان وجودهم في العالم، لم يديروا ظهورهم لبلدهم الأصلي في جميع الظروف.
هل ظلمهم دستور بوتفليقة؟
تنصّ المادة 51 من الدستور الجزائري المعدّل في عام 2016 على أنّه "يتساوى جميع المواطنين في تقلد المهام والوظائف في الدولة دون أية شروط أخرى غير الشروط التي يحدّدها القانون، التمتّع بالجنسية الجزائرية دون سواها، شرط لتولي المسؤوليات العليا في الدولة والوظائف السياسية"، إنها مادّة تُزيح تمامًا أي فرصة تولي مزدوجي الجنسية لمسؤولية سياسية في الجزائر، وهذا ما اعتبره متابعون طردًا مباشرًا للكفاءات الجزائرية المولودة في الخارج، والتي حملت بحكم ذلك جنسية أخرى، كما أن شروط الترشّح لرئاسة الجمهورية أضيف له شرط الإقامة لعشر سنوات في الجزائر، فلا يمكن لأيّ جزائري مهما كان مستواه أن يترشّح أو يتبوأ منصبًا سياسيًا مادام حمل جنسية أخرى أو يسكن أرضًا أخرى.
الجزائر التي استفادت من خدمات رياض محرز، يُمكن أن تستفيد من أيّ سياسي أو رجل أعمال أو طبيب يحمل الوطن في قلبه
إن جموع الجزائريين المغتربين الذين يخرجون في عواصم العالم ليعيشوا حراك الشعب في غربتهم وليهتفوا بأعلى صوت من أجل جزائر جديدة، ينتظرون أن يتمّ تصبّ تعديلات الدستور في صالحهم، فالجزائر التي استفادت من خدمات رياض محرز، يُمكن أن تستفيد من أيّ سياسي أو رجل أعمال أو طبيب يحمل الوطن في قلبه، تمامًا كما يحمل جوازي سفر دون أي عقدة نقص.
اقرأ/ي أيضًا: