قصة الإيراني الذي ظلّ في مطار باريس لمدة 18 سنة لعدم حصوله على الأوراق القانونية ووفاته قبل أسابيع، ألهمت كثيرين من بينهم المخرج ستيفن سبيلبرغ في فيلم "ذي تيرمينال" (مبنى الركاب) الشهير، لكنها تحكي واقع كثير من الناس، ممن يعيشون في فضاءات مغلقة أو مفتوحة في مناحي البلدان وحتى على هامش الواقع الجزائري.
كانت حديقة ميصوني بالعاصة ملجأ السيد حسين (65 سنة) لأزيد من عشر سنوات، حيث ينام بها مفترشًَا أسمالًا بالية
بعيدًا عن الأحداث المتواترة هنا وهناك، كثير من الجزائريين العالقين في فضاءات عمومية باتت مهربهم الوحيد، عالقون في مكان واحد ولكنهم خارج الزمن فمن هنا يبدأ هذا الرّصد الحقيقي لعدد من القصص التي عاشها أصحابها لفترة طويلة وتحاول " الترا جزائر" نقلها.
اللّقاء في "حسيبة"
قصة المرأة التي عاشت لفترة تمتد إلى أكثر عن 22 سنة في شارع حسيبة بن بوعلي بقلب العاصمة الجزائرية، من بين أطول الشوارع الجزائرية، قصة تحمل الكثير من الغموض والأسئلة، فهذا الشارع الرابط بين مختلف الأماكن المهمة في عاصمة البلاد، يخفي الكثير من الحكايات من بينها قصة السيدة (س. ن 46 سنة).
قد تبدو قصتها غامضة في البداية، ولكن مع مرور الزمن ومرور الأيام والفصول اتضح أنها البنت الصغرى لأحد أثرياء مدينة في الغرب الجزائري، توفيت والدتها وعمرها 14 سنة فتزوج والدها مرتين، فكان نصيبها أن يتمّ تزويجها لرجل غني أيضًا، ولكنها تهرب من البيت لتعيش في الشارع وبين المدن إلى أن وصلت إلى العاصمة وعمرها وقتذاك 23 سنة فقط، في زمن العشرية السوداء.
ومن هناك تبدأ قصتها مع ابنها الصغير الذي كانت تحمله معها في الشارع حيث استقر بها الوضع أمام بوابة مركز التكوين المهني لتتسول، وفي الليل تغادر نحو سلالم محطة " آغا للقطارات".
ظلت كذلك لسنوات طويلة في فضاء عمومي بين مكانين وفي شارع واحد، لكنها وللأسف أنجبت إبنًا ضريرًا وظلت تحمله معها إلى أن كبر وصار شابًا ولكنه احترف التسول رفقتها.
هل أرادت التغيير؟ وهل بحثت عن مأوى أفضل من الشارع؟ وهل حاولت العودة للبيت؟ أسئلة كثيرة لا ترد عليها، بل أحيانًا تنهر من يقبل على الحديث إليها.
التسول حالة مرضية اجتماعية، هكذا يصف بعض المختصين أو من درسوا هذه الظاهرة، فالمتسول يدخل في قالب يرفض الخروج منه مهما لقي من تحفيزات وإغراءات العيش الكريم والعمل والعودة إلى شقف يأويه. كثيرون يرفضون ذلك لأنها عادة لا يمكن تغييرها إلا بطرق إنسانية أولًا ومعالجات اجتماعية ونفسية.
الذاكرة منسية
قد تصبح بعض الأماكن ملجأ لبرهة من الزمن، لكن مع مرور الوقت يستأنس بزوار المكان المغيرين في كل ساعات اليوم، هي قصة عالق آخر في محطة الخروبة، شرق العاصمة الجزائرية، بلغ اليوم من العمر 58 سنة حسب تصريحه لـ" الترا جزائر"؛ إذ لا يتذكر يوم مولده ولا حتى المكان الذي ولد فيه، فأحيانًا يذكر مدينة بوسعادة، ومرة أخرى يتذكر أنه قادم من الجبل، فكلها كلمات تنبئ أنه مرّ بأزمة صحية أفقدته البعض من ذاكرته الماضية أو جميع ما عاشه في السابق.
هو عالق في مكان حيوي، فالجميع يتعامل معه بالكثير من الحذر ويلبون له طلباته من أكل ومشرب ولكن لا يخالطونه كثيرًا لأنه ينقلب على من يرمي للحديث معه إما بالضرب أو بكلام غير لائق.
الغريب في القصة أنه يفتخر بأن عمره الحالي هو 19 سنة، يتذكر أنه قدم إلى هنا عن طريق الحافلة ولم يدفع وقتها ثمن التذكرة، وبقي مقيمًا بين مقرات المحطة البرية الرابطة بين مختلف الولايات الجزائرية طيلة هذه الفترة.
عرض الكثيرون عليه الذهاب إلى مركز يأوي المتشردين، لكنه يهرب من أي شخص يدله على هذا المقترح، فيما يتلقى الألبسة أحيانًا والطعام من مختلف محلات الأكل السريع المنتشرة في المحطة تارك وراءه. القصة التي علقت في ذهن أول من التقى به في المحطة وهو عامل بأحد الخطوط البرية الجزائرية للحافلات وسط –شرق.. لقد كان أنيقًا وقتها.
المرض ثمّ التخلّي
العالقون بالمستشفى الجامعي مصطفى باشا بقلب العاصمة الجزائرية كثيرون، وعلى من يريد أن يقوم بجولة لداخل المستشفى يلاحظ ذلك، خاصة بالقرب من المصالح الاستشفائية وتحت الأشجار المعمّرة هناك، وفي الزوايا البعيدة عن الأعين أحيانًا أو على جنبات المدخل الرئيسي أحيانًا أخرى، حيث افترش البعض الأرض وبجانبه بعض الأغراض والألبسة. أغلب الموجودين على تلك الحالة غرباء عن المكان.
قصة العالقة في المستشفى نورية (56 سنة) غريبة بعض الشيء، فهي أصيبت بمرض جلدي، دخلت المستشفى في عمر الثلاثين فتخلى عنها الأهل وقتها لضيق الحال على لسان أحد الممرضات، فقد دخلت نورية لتعالج فلم تتمكن من العودة لبيت أهلها.
كثير من العالقين في المستشفى يتحدثون عن دوافع كثيرة يصعب سردها في عجالة، ولكن هذه السيدة وجدت ضالتها في هذا المكان: "الآمن وأصحابه الطيبون. "إذا لم تتمكني من الفاكهة ستجدين البطاطا مقلية والدجاج" تقول لـ"الترا جزائر" بأنها أحيانًا تكتفي فقط بكوب قهوة ساخن وقليل من الخبز.
في المكان نفسه، وفي الفضاء الواسع الذي يتميز به أحد أكبر مستشفيات الجزائر، تخفي الكثير من الوجوه قصصًا معقدة، منها من ترك بيته لأسباب اجتماعية وأخرى من تحاملت عليها ظروف المرض ثم الحاجة لمكان يلملم ما بقي لهم من حياة.
الإدارة تقرأ ولا تسمع
ليس بعيدًا عن المستشفى وبالضبط في حي " ميصونيي" الشارع النابض بين أرقى وأكبر شوارع العاصمة الجزائرية، المعروف بتعدد محلاته التجارية وتنوعها، إضافة إلى كثافة زواره يوميًا من المتسوقين والباعة المتجولين أيضًا، كانت حديقة الحي ملجأ السيد حسين (65 سنة) لأزيد من عشر سنوات، فيها ينام وبين أسوارها الحديدية مفترشًَا أسمالًا بالية ويضع أمامه بعض الأواني ليتناول وجباته اليومية، مما يجود عليه البعض.
قصة هذا الرجل مؤلمة للغاية خاصة وإن علمنا أنه كان من أغنياء بلدته في ولاية سطيف (عاصمة الهضاب العليا)، فقد كلّ شيء بسبب الثقة، فأجهز عليه أحد الشركاء بأخذ ما تبقى له من أموال دون إرجاعها، خاصة وأن السيولة المادية لم تكن توثق بينهما، لكن يبدو أن فقدان العقل بالنسبة لهذا الرجل "نعمة رغم آلامه اليومية".
يقول محدث " الترا جزائر": "نعم أنا في نعمة ربي، كنت عندي حوانيت وتجارة في عدة مناطق منها تلاغمة وتاجنانات وسطيف ولكن الله غالب لم يبق شيء".
يتضح من نبرة كلامه أن وراء القصة الكثير من الشّجن وبعض الأخطاء التي ارتكبها أيضًا، كما اعترف (رغم قسوة المنظر الذي يعيشه الآن) إلا أنه قال: "الثقة في الوثيقة، الحمد لله راني في سجن كبير وليس في سجن صغير مغلق"، يقصد وجوده اليوم في الشارع وليس وراء القضبان.
أخرج من سترته أوراق الأطباء من الأمراض العصبية والعقلية، لأنه تعرض عدة مرات لنوبات عصبية حادة بسبب عدم تقبّله لحالته والخسارة الكبرى التي مني بها من عائلة وأملاك.
كثيرة هي القصص التي يمكن أن تسرد يوميًا عن أناس عرفوا الشارع ومخاوفه ورهبته الموحشة ليلًا
كثيرة هي القصص التي يمكن أن تسرد يوميًا عن أناس عرفوا الشارع ومخاوفه ورهبته الموحشة ليلًا، رغم توفير الحكومة في الجزائر للعديد من المراكز الخاصة برعاية الأشخاص في مثل هذه الوضعيات، ولكن وكما يقول المثل الشعبي الجزائري: "خلي البير بغطاه" فلكل واحد سر مدفون في قاع البئر لم يبح به لأحد .. أما الشارع فكثير ما انطبقت على عشرات الحالات تلك الحكمة القائلة: "مكره أخاك لا بطل".