04-يوليو-2024
نور الدين سعودي

نور الدين سعودي (صورة: فيسبوك)

قبل أن يرحل في حادث مرور أليم، ترك الفنان نور الدين سعودي، منشورا وداعيا يتحدث فيه عن الزمن الذي يقطف الأرواح، بلغة صوفية عميقة، تشير إلى ثقافته الموسوعية وإحساسه المرهف.

حزن عميق في الوسط الفني والثقافي إثر وفاة الراحل في حادث مرور أليم

جاء في منشوره الذي كتبه بلغة فرنسية فخيمة، إن "الوقت يمر ويرافقنا، يعبر من خلالنا، يسبقنا، يتجاوزنا، يضغط علينا أحيانًا، يريحنا أحيانًا عندما نشعر بموجات هادئة في خضم عواصف الحياة".

وأضاف عن الزمن أنه "كيان أثيري غير قابل للإمساك، هو مجرد تجريد يدير حياتنا ولكنه لا يمكن تحديده، حتى لو أعطت مخاوفنا له شكلًا ومدة. إنه يمر بسرعة، يتدفق ويحملنا في رحلة مجنونة، يأخذنا في دواماتها وفي تناقضاتنا الخاصة".

وأردف في خاتمة روحانية فلسفية: "الوقت هو دائمًا هذا الكيان المجرد الذي يقطف الأرواح.. ثم ينطلق دون توقف نحو حقيقة اللانهائي، في رقصة لا نهاية لها، نحو زمن الله".

عبر هذه الكلمات، لم يكن يعلم الراحل أنه يكتب عن أجله الذي اقترب، قبل أن تتناقل الصفحات والمواقع ذلك الخبر المفجع عن رحيله، والذي كان له وقع الصدمة على أهل الفن والثقافة في البلاد، ممن يعرفون قامة الرجل وقيمته.

يصفه الروائي أمين الزاوي في رثائه أنه "الفنان المتكامل" فقد جمع بين العزف والغناء والكتابة والتفكير، وفوق ذلك اشتغل على الهم الثقافي في الجزائر وتكبد مشاق التسيير في أوبرا الجزائر.

في رثائه يقول الزاوي: "وداعًا الفنان الكامل، وداعًا صديقي نور الدين سعودي! عالم الموسيقى والأدب والبحث العلمي في حداد! موسيقي من الطراز الرفيع، جيولوجي، باحث، روائي، وفاعل ثقافي موهوب، نور الدين سعودي يتركنا فجأة! حزين ومنهار لفراقك المأساوي! وداعًا أيها الفنان! وداعًا يا صديقي نور الدين!".

يشهد على ذلك، من موقع العارف، وزير الثقافة السابق، عز الدين ميهوبي، الذي سرد شغف الراحل وولعه بتوثيق تاريخ الجزائر الثقافي والحفاظ على تراثها من الإهمال والاندثار.

يقول ميهوبي في رثائيته: "زارني يوما في مكتبي وأخبرني أن هناك نقيشة صخرية في أروقة باب عزون، هي الوحيدة، التي تشير صراحة إلى إيكوزيوم Icosium.. انتقلت إلى المكان وكان ينتظرني هناك.. حيث طلبت من مسؤولي الآثار بولاية الجزائر، العناية بها، ووضعها داخل إطار مناسب يقيها التلف والتشويه. فقد كان نورالدين أحد خبراء الآثار والأنثروبولوجيا في الجزائر، وتقلد عديد المسؤوليات في القطاع".

أما عن واقعة منحه تسيير أوبرا الجزائر، ذكر الوزير السابق: "حين اتصلت به في مكتبي 2016 بوزارة الثقافة، كان يعتقد أنني سأطلب منه شيئا يتعلق بسياسة الآثار أو وضع خارطة وطنية لاستكمال الحفريات.. غير أنني فاجأته بعرض منصب مدير عام أوبرا الجزائر. لم يقل شيئا، وبقي ينظر إليّ، وكأنه استغرب ما قلته له.. ضحكتُ وقلت له: نورالدين.. أنت كفاءة في عديد المجالات، وتحوز خبرة في الادارة والتسيير.. فضلا عن أنك فنان يمتلك رصيدا هائلا في الموسيقى الأصيلة، من أندلسية وشعبية وعالمية. إن لم تنجح في إدارة الأوبرا التي نراهن على أنها ستكون قطبا لعديد الفنون.. سنحوّلها إلى معلم أثري وينتهي الأمر! ضحك رحمه الله، وقال لي: "بصراحة، كنت أعتقد أنك ستعيدني لإحدى المؤسسات التي تعنى بالآثار أو التراث عموما.. وإذا بي أسمع شيئا مختلفا. لا يمكن لي أن أرفض عرضا كهذا!".

وأضاف عن أدائه: "طلبت منه أن يزور عددا من دور الأوبرا في العالم، ليأخذ بالنموذج الأفضل، فزار أوبرا ميلانو، والقاهرة وغيرها.. وانطلق موازنا بين الموسيقى العالمية من خلال الأوركسترا الوطنية، ومختلف الفرق التي تختص بالموسيقى الاندلسية والشعبية والبالي الوطني..كنت أشجعه باستمرار، ولم يخيب ظني أبدًا، رغم ما يعترضه أحيانا من عوائق.. ولم يكتف نورالدين بإدارة الأوبرا، بل كان يشارك في بعض العروض بصوته وتجربته المتميزة..لا أعتقد أن هناك من ينتقص من جهوده الكبيرة في تنويع برامج الأوبرا وتكثيفها.. حتى أنها تحولت إلى مركز ثقافي متقدم في مختلف العروض الوطنية والعالمية!".

أما المسرحي والصحفي، احميدة العياشي، فتحدث عن تأثير الراحل في الحياة الثقافية وإثراءاته للبرامج التلفزيونية.

وكتب يقول: اتصلت بك لتحل ضيفا على لقاءات ماگرّة ببلعباس (أيام مسرحية نظمت قبل أيام)، لكن التاريخ لم يكن مناسبا لك بسبب التزامات سابقة واتفقنا أن نعوضها بحضورك في لقاءات الجزائر خلال المنتصف الثاني من تموز/جويلية، كنت انتظر ذلك بحماسة ولهفة، لكن القدر أراد أمرا ٱخر".

وتابع: "كنت رجلا موهوبا متعددا، جامعيا، باحثا، روائيا، وموسيقيا واسع المعرفة.. كنت إنسانيا إلى درجة لا تصدق صديقي، لا يمكنني أن أنسى سجاياك، تدخلاتك العميقة كلما دعوتك الى حصصي وصداقتنا الراقية العظيمة، رحمك الله".

كل هذه الخصال، جعلت الكاتب والصحفي نجيب بلحيمر، يصف وفاة نور الدين سعودي بأنها خسارة ثقافية فادحة.

وقال: "كان رحمه الله مثقفا وباحثا في ميدان تخصصه وفي ميدان الموسيقى الأندلسية التي جمع فيها بين الدراسة الأكاديمية والممارسة الراقية". قبل أن يختم: "هذا النوع من الفنانين المثقفين نادر جدا في بلادنا، وتعويضهم صعب في سياق الانهيار الثقافي والفني الشامل".