قدّمت مجموعة من "الشابات" الوهرانيات ذوات الجمال الأسمر الساحر الذي يميز مناطق الغرب الجزائري، لوحة راقصة مميّزة خلال وقائع حفل افتتاح ألعاب البحر المتوسط في مدينة وهران، حيثُ نَزَلْنَ حافياتٍ واثقاتٍ في صفٍّ واحد نحو منصة العرض، وقد كنّ يرتدين زيّ البلوزة الوهرانية المخاطة من أقمشة "الصّْدَفْ" و "التُّول"، وهي أقمشةٌ خفيفةٌ براقة، منسدلةٌ وشفافة، انسجمت مع خفة رقصة العلاوي التراثية ذات الأصول الثورية في الجزائر.
لا تُعَدُّ أغنية "واد الشولي" لوحة راقصة تُعزف وتُغَنَّى في الأفراح والوعدات فحسب ولكنها ملحمة ثورية تضمّ بين إيقاعاتها كلماتٍ ذاتَ بُعدٍ ثوريّ ورثائيّ
هزت الفتيات بأكتافهن وحركن الأيادي مع انبعاث أولى إيقاعات الطبول وصوت الغايطة والڨلال لفرقة العلاوي المرافقة، فاهتز معهن كل من في الملعب من جمهورٍ ومشاركين، إضافة إلى من كانوا خلف الشاشات في البيوت والساحات، كما تفاعل معهن المسؤولون وضيوفهم في المنصة الشرفية أيضًا.
كانت نغمات الرقصة مألوفة جدًا لكلِّ ذي معرفةٍ بالتراث الموسيقي لمنطقة الغرب الجزائري، فقد عُزِفت إيقاعاتُ أغنية واد الشولي ، ورقصت عليها صاحبات اللوحة الاستعراضية بثقة ملفتة منحتها إياهن تلك المقطوعات الحماسية، حيث تشتعل رغبة الانطلاق والتحرر الجسدي والنوستالجيا لدى كل من يستمع إليها.
لم تكن مجرّد رقصة
لا تُعَدُّ أغنية "واد الشولي" لوحة راقصة تُعزف وتُغَنَّى في الأفراح والوعدات فحسب، إنما هي ملحمة ثورية تضمّ بين إيقاعاتها كلماتٍ ذاتَ بُعدٍ ثوريّ ورثائيّ لنصٍّ من بين أطول القصائد في الشعر البدوي الملحون، حيث تُخَلِّد أسماء أبطال عدة، أشهرهم الرايس بن علال الذي ناضل آنذاك في منطقة واد الشولي، وهي قرية صغيرة تقع على بعد 14 كيلومترًا غرب تلمسان، عند الطريق الرابط بينها وبين مدينة سيدي بلعباس، وحملت اسم الواد الأخضر بداية من سنة 1984، حيث قيل في روايات عديدة إن التسمية جاءت للتعبير عن اللون الأخضر لوادي الشولي الذي يشق الجبال عابرا قرى بني غزلي، بني حماد، بني يعقوب، أولاد سيد الحاج، مزوغن و بيدر دشرة.
شعر بدويٌّ يخلّد الشهداء
ترددت أغنية واد الشولي كثيرًا إبان فترة الاستقلال، وردّدت في احتفاليات النصر التي استمرت لفترة طويلة، إضافة إلى المناسبات والأفراح وحفلات الزفاف في تلمسان وما جاورها من المدن الغربية، ليمتد سيطها بعد ذلك إلى باقي أنحاء الوطن، ويتم التعرف على منطقة واد الشولي وتاريخها الثوري وشهيدها الأشهر على الإطلاق بفضل هذه الأغنية.
في الزمن الحالي، تمت إعادة غناء "واد الشولي" من طرف العديد من فناني الراي وشيخاته، وكان أشهرهم إعادة الشيخة الجنية، وفرقة راينا راي وحلول أفريكا، إضافة إلى الشيخ الحطاب والشيخ يوسف والشاب يزيد سنوات التسعينات.
تأريخ نسائي لسيرة بطل
كانت أغنية "واد الشولي" مؤلفًا نسائيًا بامتياز، حيث خرجت على لسان امرأة وترددت على ألسنة نسوة أخريات شهدن جرائم الاحتلال الفرنسي ووثقنها في الذاكرة من خلال أهاجيزهن وحركاتهن الجسدية، كما تعد على طولها وعمق كلماتها، توثيقًا تاريخيًا لأحداث دموية مست سكان المنطقة، إذ دونت على طريقتها يوميات نضالهم مع اقتراب الاستقلال، إضافة إلى ما كانوا يمارسونه من نشاطات ومساهمات في الكفاح المسلح، وحكيٍ مفصّلٍ لما خطط له الثوار الذين مروا بتلك المنطقة من عمليات ومعارك، وما جابهوه من خيانات ومكائد وكمائن، ضد مستعمر مدعوم من طرف العديد من "الحركى" و "الڨومية" و"الڨياد".
من هي صاحبة "واد الشولي"؟
تنتشر العديد من الروايات التي تحكي عن هوية كاتبة هذا القصيد الملحمي، وفي ظلّ غياب مصادر موثوقة كافية، يتم ترجيح احتمالين اثنين عن هوية هذه المرأة، حيث يعتقد الباحث الجامعي غوثي شقرون في أطروحة له حول الأغاني الثورية بأن الاحتمال الأول يعود إلى وجود امرأتين قد ألفتا في سجنهما كل تلك الأبيات، وهما بلعايد مولدية المنحدرة من دشرة تيزي بالقرب من عين فازة، وعايشة بني سنوس من منطقة الخميس في تلمسان.
رُجِّحَ احتمالٌ آخر في ذات المصدر، بأن هذا النص يعود إلى سنة 1961، لصاحبته الشاعرة مواليد الزانة، الملقبة باسم "عايشة"، وهي سيدة يعود أصلها إلى قرية تاجموت، وكانت زوجة الشهيد الطاهر الموسطاش.
يكمن الاختلاف في تناقل النصين في أبياتهما الأولى، حيث تبدأ القصيدة المنسوبة للسجينتين بالبيت:
"من صابني كالحمام نروّد ونشوف قبرك آ بن علال".
أما النص المنسوب إلى الزانة الملقبة بعايشة فيُستهلُّ بالبيت التالي:
"أخبار اجماعة جاو بالشارة أشربوا لامونات على خويا
شكون الزعيم كي بن علال شقّ الجبال يحرّر الوطن".
أما الكاتب عاشور فني، فيرجع القصيدة حسب مقال سابق له إلى المجاهدة صفية، التي تضامنت فيها مع زهية زوجة الشهيد بن علال فرثته، كما أنها عانت حسبه من التعذيب والتنكيل في غرفة انفرادية في سجون المستعمر الفرنسي، بغية الحصول منها على اعترافات تورط رفقائها المجاهدين، فلم يفدهم كل ما قاموا به، فأتوها برأس ابنها المقطوع مهددين بجلب رأس أخيها وزوجه إن لم تعترف، فأنشدت تقول:
"هـذَاك ولْد اثْناعـش المَلْيـون آنا لا تبكـي لاَ اتڤُولـي ولْــدي".
يقول عاشور فني في ذات المقال، أن النسوة كُنَّ يرددن هذه الأغنية في "رقصات الصف" رثاءً لابنها ولمصابها فيه، وكن يرقصن وهن يشرن بأصابعن لرمز المسدس، كما أن القصيدة تتغنى حسبه بمآثر وبطولات الشهداء وتمجدهم مخلدة أسماءهم، حيث نجد فيها قوة خارقة تخاطب وادي الشولي وتعلن أنها لن تكلمه لأنه سمح بموت القايد بن علال، وكان عليه يحمي الأبطال.
اعتبر الكاتب عاشور فني أن هذه القصيدة الشعبية من أقوى القصائد في الأوساط الشعبية لما فيها من قوة ومن شجاعة تثير الإعجاب، ومن شجاعة شهداء ضحوا بحياتهم من أجل الوطن، إضافة إلى شجاعة هذه السيدة التي واجهت التعذيب والتنكيل.
في رثاء الرايس بن علال
بطل هذه المرثية هو الرايس بن علال، واسمه الحقيقي قريش قويدر، ابن سليماني فاطمة وقرّيش محمد ،وهو من مواليد الخامس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر سنة 1929 في عين غرابة.
ينحدر الشهيد بن علال من عائلة متواضعة مكونة من الأب والأم وثمانية ذكور وفتاة واحدة، وقد كانت عائلة ثورية بامتياز، شهدت استشهاد أربعة من إخوانه خلال الحرب التحريرية، ولعل مشاركته في حرب الهند الصينية قد منحته الخبرة العسكرية اللازمة لخوض المعارك والاشتباكات مع جيش المستعمر الفرنسي، حسب ما ذكرته مصادر تأريخية، لينخرط بعدها في حزب الشعب مباشرة بعد رجوعه إلى الجزائر سنة سنة 1950، ثم ينخرط في الكفاح المسلح في الميدان.
يُذكر في المراجع التاريخية أن الشهيد كان لا يكل من إزعاج المستعمر الفرنسي من خلال هجوماته المتتالية على المراكز العسكرية، وسرقة الأسلحة، واغتيال المتواطئين والخونة من بني جلدته.
احتضن جبل القادوس آخر معركة للشهيد بن علال يوم 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1956، حيث توفي عن عمر ناهز 29 عامًا، وقد اشتهرت هذه المواجهة بدمويتها الكبيرة، وجرت وقائعها في جبال منطقة شولي بين بني وحيان وبني سليمان، وقد استخدم الجيش الفرنسي خلالها طائرات ومروحيات لأول مرة، حيث تكبد الفرنسيون خسائر بشرية وصلت إلى خمس وسبعين جنديا، أما الجزائريون فقد فقدوا 17 شهيدًا، إضافة إلى أسر ثلاث مجاهدين.
خلدت أغنية "واد الشولي" ذكرى هذا البطل، وقصّت للأجيال المتعاقبة عن سيرته وبطولاته الكثيرة
خلدت أغنية "واد الشولي" ذكرى هذا البطل، وقصّت للأجيال المتعاقبة عن سيرته وبطولاته الكثيرة، لتنتقل حكاياته إلى كل أنحاء الوطن بفضل تلك الأهازيج والرقصات التي كانت تذكره حيثما أقيم احتفالٌ أو وعدة، وأينما نظمت "رقصات الصف" التراثية، ليأخذ هذا النوع من التأريخ الفني مكانة هامة في توثيق ثورةٍ واجهت مستعمرًا شرسًا شن عليها كل أنواع القمع والتعتيم، فنجحت في رواية حكايات نواحٍ تاريخية معزولة، وشهدت بالبطولة لأبناءٍ كافحوا لتحرير أرضٍ ضمتهم وحفظتهم في ذاكرتها.