مقطع فكاهي من فيلم "حسان النية"، يظهر فيه الممثل أحمد عياد الملقب بـ"حسان طيرو" وهو على سطح بيته العتيق في حي القصبة رافضًا عملية الترحيل من البيت.
كان ياسين يعيش رفقة والدته بوسط العاصمة في بناية كولونيالية، ولكن معاناته بدأت يوم أخطروهم بقرار هدم البناية لفائدة مشروع التراموي
في لقطة كوميديا وسط بنايات هشة وقديمة، يَقفُ حسان على شرفة العمارة وأمام جمع من أبناء الحي المناصرين له، يُبدي الممثل الفكاهي مقاومة لمنع ترحليه القسري من منزله الواقع في حي القصبة نحو الضحية الشرقية من الجزائر العاصمة.
يَرفض حسان الاستجابة إلى دعوة حكماء الحي، ويهدد أعوان الدولة باستخدام بندقية صيد في حالة اقتحام البيت، معتبرًا أن المسكن الذي يقيم فيه مكسب عائلي له رصيد تاريخي، عازمًا عن عدم الاستغناء على المسكن رغم مخاطر انهيار العمارة، وهشاشة البناية والخطر الذي يهدّد حياته في حال سقوط أعمدتها.
صرخة مكتتبي "عدل"
مَشاهد مُمَاثلة من حيث مضمون رسالة "الترحيل السكاني" المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي لمكتتبي سكنات البيع بالإيجار "عدل"، بمنطقة حوش الريح بضواحي مدينة مفتاح بولاية البلدية غرب العاصمة، لكنها ليست مقاطع فكاهية وكوميدية بل صرخة استياء عبرت فيه عائلات جزائرية، تم تعيين منطقة حوش الريح كمجمعات سكانية جديدة.
هي صرخة تُعيد لحظة معاناة سبق وأن عايشتها عائلات هُدمت مساكنها من أجل توفير وعاء عقاري لإنجاز منشآت قاعدية على غرار الميترو أو إنجاز خط التراموي أو تشييد طرقات، إذ بين عشية وضحاها، وجدت عائلات بكاملها العيش والانتقال إلى مساكن جديدة، داخل نسيج عمراني مغاير ومختلف عن المؤلف، والإقامة وسط بيئة سكانية متعددة ومختلطة الانتماءات.
علاوة على ذلك يترتب عن هذا الترحيل، مشاكل مرتبطة بالبعد عن مقر العمل والأقارب، والانعكاسات السلبية على تمدرس التلاميذ وأزمة اكتظاظ المدارس، ونقص وسائل النقل وغياب مرافق للخدمات، فضلًا عن المعاناة النفسية جراء هذا التحوّل السكني سواء كان "قسريًا" أم إراديًا.
غربة في الوطن
في هذا السياق، يروي ياسين عن تجربة انتقاله من حي رويسو وسط العاصمة إلى حي الموز بباب الزوار، بعد قرار ولاية الجزائر هدم البنايات وتخصيص الحي إلى محطة رئيسية لإنجاز مشروعي المترو الجرائر وخط التراموي.
يَذكر ياسين في حديث لـ "التر جزائر"، أنه كان مقيمًا رفقة والدته في بناية تعود إلى الحقبة الاستعمارية قديمة ومتواضعة، مسكن من طابق أرضي، متكون من ثلاثة غرف به نوافذ مطلة على البهو الخارجي، ومطبخ وحمام تقليدي، يُحيط البيت حديقة صغيرة مؤثّثة بشجرة الليمون وسط الدار، وجدران مُغلفة بنباتات البوغَنفلية وشجيرات الياسمين ونباتات مسك الليل.
يقول محدثنا بدأ الجحيم يوم تم إشعارهم من طرف السلطات المحلية عن مشروع هدم البناية قصد إنجاز مشروع التراموي والشروع في عملية تعويض السكان.
ومما زاد من التعب والإرهاق النفسي يُضيف المتحدث، أن مشروع الهدم والانتقال إلى السكن الجديد دام عدّة سنوات، وهي فترة انتقالية جد مُرهقة نفسانيًا وذهنيًا، على حدّ قوله.
وأضاف محدثنا بعدما تقبلنا القرار، استبشرنا خيرًا خصوصًا بعد إشعارنا أن السكنات الجديدة تتواجد بحي الموز الذي لا يبعد عنا إلا حوالي 10 كيلومتر، والعمارة الجديدة يتقاسمها أبناء الحي القديم نفسهم الذين جاوروهم في حيّهم القديم.
وقع الاختيار بعدها، حسب المتحدث، على ترحلينا إلى عمارة تتكون من 15 طابقًا، حينها تقدم ياسين بطعن يتضمّن ملفًا طبيًا لوالدته يشرح معاناتها مع المرض، وأشار أنّه بعد الطعن، خصصّت لهم شقّة في عمارة من خمس طوابق، مساحاتها تقدر بـ 80 مترًا مربعًا، غرفها صغيرة برواق ضيّق جدًا ومطبخ وحمام دون تهوية كافية، رفقة جيران جدد، على حدّ تعبيره.
حينها، لم يكن لدى ياسين أيّ خيار آخر ماعدا ربما الانتقال إلى مجمعات سكانية أبعد فاستسلم نهائيًا.
معاناة نفسية
يستعرض ياسين معاناته وشكواه مع الأسابيع الأولى، "ضجيج ولغط يومي في العمارة، وصخب وصياح في الشوارع، تحوّل إلى عبء يومي أنكهكه نفسيًا.
اضطر ياسين إلى استشارة طبيب نفساني واستهلاك أدوية مهدئة، مشيرًا أنه شعر بالغربة بعد "استئصاله" من محيطه الذي نشأ فيه، والقطيعة مع جيرانه وأصدقائه، قائلًا: "كل شيء تغيير في حياتي، كنت أشرب القهوة الصباحية وسط شجيرات الياسمين، فإذا بي بين جدران مظلمة وضيقة، كنا نسهر في الحي رفقة أصدقاء الطفولة، ونتشارك الذكريات والأحداث والحكايات، وفجأة تبخّر كل شيء".
وما زاد من متاعب الوافد الجديد على الحي، تسلل شعور بالخوف وعدم الطمأنينة على والدته حين يضطر الذهاب إلى العمل تاركًا إياها وحيدة في المسكن، هنا، يستطرد متحسرًا: " كانت أبواب مساكننا القديمة مفتوحة طوال اليوم، أما في المسكن الجديد أول الشيء أقدمت عليه هو إنجاز أبواب حديدية على مدخل المسكن وقمت بصد النوافذ".
مرت بضعة سنوات توفيت والدة ياسين وفي جعبتها غصّة ومرارة من المسكن الجديد الذي أبعدها عن ذكرياتها وأعز أيامها، أما ياسين فقد عجز عن التأقلم والتكييف مع النسيج العمراني، ليقرر الهجرة إلى خارج الديار، بحثًا عن راحته النفسيه، إذ يعلّق هنا "تغرّبت في بلدي، فلم لا أغترب إلى بلدان الناس".
سوسيولوجيا المدينة
الباحث في الشأن الاجتماعي ياسين فعفاع، يُلفت أن السكن عامل استقرار اجتماعي ونفسي للإنسان، مضيفًا أن السكن ليس فقط مكان فيزيائي ومادي للاستقرار، بل هو مرتبط بمحيط وبيئة اجتماعية.
ويشير المتحدث، أن سكن الانسان هو جزء من حياته الاجتماعية، "كذلك يربط الفرد والعائلة ككل بذكريات وعلاقات جوارية قوية".
وبناءً على ذلك، يضيف فعفاع، أنه عندما يضطر الانسان أن يرحل قسرًا او ينتقل إراديًا إلى سكن جديد يعتبر ذلك تجريدًا له من حياته الاجتماعية التي تعود عليها ونشأ منذ صغره فيها، وله فيها روابط وعلاقات اجتماعية.
ملفتًا النظر أن سوسيولوجيا المدينة لا تهتم فقط بالأبعاد الاجتماعية للمدينة، بل تهتم أيضًا بالعلاقات الاجتماعية داخل أحياءً المدن والتفاعلات الحضرية في الفضاء العام.
صعوبة الاندماج
في السياق نفسه، وأفاد الباحث الاجتماعي، يَشعر الانسان الذي يرحل إلى حي جديد، بنوع من الاغتراب والتشويش الاجتماعي وعدم الارتياح نفسيًا لهذا الوسط الجديد ويجد صعوبة في الاندماج.
وتابع محدثنا خاصّة إذا كانت هاته الأحياء بعيدة عن المدن التي رحلوا منها، وهو ما يزيد من صعوبة اندماجه وتأقلمهم مع الواقع السكني الجديد، بالإضافة لو أن الساكنة المرحلة ليسوا من حي واحد بل أحياء مختلفة، هذا يزيد من صعوبة الاندماج وتشكيل علاقات اجتماعية جديدة.
التضخم العمراني والحضري المتزايد قد يعالج أزمة الإسكان ظرفيًا، لكن الأكيد أن تلك المجمعات السكانية الجديدة ستخلق مستقبلًا، عدّة سلوكيات سلبية، ويترتب عن هذ النمط العمراني تأثيرات صحية واجتماعية ونفسية وتصنع مجتمعات لا تشعر بالراحة وسط تدني وتشوش الوسط العمراني.