"لم أكن تلميذًا متفوقًا، كنت تلميذًا جيدًا ومجتهدًا، لكن حلمي الطفولي كان دائمًا أن أطير. الطيران هو المعنى الأسمى للحرية، عندما تخصّصت في دراسة الميكانيكا بجامعة باتنة، فتعزز ذلك الحلم، منذ الوهلة التي تعلمت فيها، أن الحركة الفيزيائية للجسم الطائر، تتشكّل من ثلاث حركات دوارنيه، وثلاث انتقالية، تسمى الحرية السادسة".
بشير بن مربي لـ "الترا جزائر": تحلق الطائرة على علو منخفض فوق المزارع والحقول، وبسرعة تتراوح بين 50 إلى 150 كلم
هذا ما أدلى به بشير بن مرّبي، مهندس الميكانيكا، الستيني، إلى"الترا جزائر"، بعدما لفتت طائرته العمودية النظر، خلال المعرض الدولي للفلاحة المنعقد بين 20 و23 ماي/ أيار الجاري، بقصر المعارض بالعاصمة الجزائرية، كما لو أنه يحقق انتصارًا ضد الزمن. انتظر ابن مدينة المشمش عقودًا طويلة كي يرى مشروعه مرتقيًا بطريقة مثالية، من حلم بسيط إلى فكرة مسيطرة على الذهن إلى هيكل قائم للعيان. ومع ذلك يعترف الرجل المنغمس في الابتكارات، المنفصل تمامًا عن وسائل التواصل الاجتماعي لـ "الترا جزائر": "صحيح أن الطائرة العمودية صنعت الحدث، لكن أمامي تحديات أخرى، خلال مرحلة التجارب التي ستجرى قريبًا".
يعني، هذا، أن مشكلات إدارية يفرضها القانون بخصوص إجازات الترخيص بالتحليق والطيران في طريقها إلى التسوية، ما يقرب آجال إجراء التجارب النهائية برعاية السلطات الجزائرية العليا.
طاولة مبتكرة
عمل بشير أستاذًا في مادة الميكانيك بمتقن نقاوس، جنوبي غرب ولاية باتنة، شرق الجزائر، لكن ذلك لم يكن ليشفي غليل ميولاته الفطرية المتجهة صوب التطبيق الفعلي للعلوم الملقنة. إن أول ما فكر فيه عندما كان يدرس طلبة التقانة، مطلع التسعينيات، هي تلك الطاولات التي كان التلاميذ يطبقون فوقها دروس الرسم الصناعي.
ولأنها كانت غير ملائمة للاختصاص، فقد صمّم نموذج طاولة بديلة عرضت في ذكرى يوم العلم، لتلاقي استحسان أساتذة المادة ثم إدارة المؤسسة التي أبرمت معه صفقة لتجديد كل طاولات الثانوية، فأنشأ رفقة شريك أول وحدة لصناعة التجهيزات المدرسية. عن تلك التجربة يقول: "سمح لي ذلك الخروج من روتين الدروس النظرية إلى تطبيق المعارف المكتسبة، فلا معنى أن تدرس نظريات الفيزياء والميكانيكا، مثلًا دون أن تستثمرها في منتج يستفيد منه الناس، ولأن مشروع الطاولات لقي رواجًا وطلبيات تصنيع كثيرة، فقد أنشأت مع شريكي مؤسّسة، ثم تطورت الأمور، لأبعث العام 1999 مؤسّسة أخرى، تخصصت في التجهيزات. كان ذلك مفيدًا للغاية إذ علمني الدمج بين المعرفة والتجارة".
في تلك الفترة كان حلم صناعة طائرة عمودية ينام في ذاكرته الاحتياطية، وحتمًا لم يكن يدرك أن فكرة "التحليق الذهني" التي ظلت ترافقه كانت في حاجة إلى تمرس في كيفية تطويع الهياكل المعدنية وصقلها.
أمن مخبري
في العام 2009 أطلق المهندس شركة أخرى هي "إيكزو سايف"، ومتخصّصة في مجال غير مسبوق في البلاد، تعلق الأمر بتصنيع منتجات عالية الدقة في نطاق التجهيزات المخبرية. تتولى هذه المخابر مهام شفط الغازات الكيمائية، وإنجاز حاويات الأمان للاستعمالات البيولوجية والمكروبيولوجية، وسلسلة تخزين المواد الكيمائية.
ولجودة المنتج الذي يرتبط بمفهوم الأمن في المؤسّسات الحيوية، فقد فازت المؤسسة العام 2021، بالجائزة الوطنية للمؤسسة المبتكرة. وهذا التتويج فتح الباب واسعًا للتكفل بإنشاء هذا الصنف من المخابر في عدة مؤسسات يقول بشأنها لـ "الترا جزائر" إننا "زوّدنا مؤسّسات كبرى بهذه المخابر التي تؤمن كل المواد المستعملة من الأخطار البيولوجية والمكروبيولوجية، مثل الجامعات ومؤسسات سوناطراك ونفطال، وغيرها. وطبعًا كان لنا شرف وفخر تزويد مؤسّسات دولة تتمتع بالطابع الجمهوري السيادي بهذه الوسائل الحساسة والدقيقة".
هاجس غذائي
في عام 2009 بدأ بشير التجسيد العملي لفكرة التحليق الذهني التي لازمته، بإنجاز طائرة من نوع " أوتوجير" أي ذلك النوع الذي ظهر العام 1923، ثم صارت طائرة هواة على يد إيغور أبسن، قبل أن يعيدها الإيطالي ماغني، منذ الستينيات، للاستغلال في خدمات متنوعة، تخص الفلاحة والمراقبة الجوية للتضاريس والغابات، والأهم المعالجة الكيمائية، بعد عقود من التواري عن المشهد لصالح النوع الجديد من طائرات هليكوبتر الحالية.
في هذا الصدد يوضح لـ "الترا جزائر": "مستفيدًا من الاستعمال الراهن لهذه الطائرات، عرضت العام 2016 نموذجًا بجامعة باتنة لكن المشروع توقف ولم يكتب له الاستمرار، بيد أن ذلك مكنني من القيام ببعض التصحيح والتصويب والمراجعة، حتى تكون هذه النسخة التي أميطت عنها الستارة في المعرض الدولي للفلاحة في صورتها النهائية. وهي مخصّصة للأغراض الفلاحية لأسباب استراتيجية تتعلق بالأمن الغذائي للبلاد".
ويضيف واعيًا بحجم التحديات الوطنية والإقليمية والدولية: "الفلاحة هي مرادف الأمن الغذائي والوجودي للشعوب، في العام 2050 سيواجه العالم أزمة غذاء خانقة، سيصبح التعداد 10 ملايير نسمة وستكون هناك ندرة فادحة ستدفع دولًا حريصة على الحفاظ على شعوبها للإحجام عن تصدير قوتها للآخرين، بعض دخان هذه النار برز بعد الحرب الروسية الأوكرانية في شعبة القمح على سبيل المثال. لذا يجب التركيز على تدعيم كل ما يتعلق بالفلاحة في الجزائر، اليوم قبل الغد".
رش جِراحي
مكنت الورشة التي أنجزها بشير منذ سنوات من التكفل بتصميم وإنجاز أغلب مكونات الطائرة، فيوضح قائلًا: "80% منها منجز بخبرة محلية، وشكلها الخارجي ملائم لآخر صرعات طائرات الأوتوجير. المحرك أجنبي الصنع بقوة 120 حصان، ويمكن استعمال ما هو أفضل. تحلق الطائرة على علو منخفض فوق المزارع والحقول، وبسرعة تتراوح بين 50 إلى 150 كلم، طبعًا لا يستحسن لهذا النوع من الأجسام الطائرة تجاوز 180 كلم الحد الأقصى المحدد لها تقنيًا".
أما الكاميرات الإشعاعية المزودة بآلات تصوير متعددة الأطياف، فتقوم كما يشرح: "بتصوير المساحات والمحيطات الفلاحية، وبمساعدة نظام ذكاء اصطناعي يتم تحليل الصور الملتقطة. وعلى سبيل المثال يمكنها أن تعرف بدقّة حجم الحقول والبساتين المريضة، أو التي تعاني نقصًا في التسميد، لتباشر بعد ذلك عمليات الرش بالمبيدات الضرورية لنوعية المرض، أو كميات السماد اللازم لتقوية التربة؛ بالمختصر توفر خصائص الطائرة عميات التشخيص والترميم بسرعة وفعالية".
إلى ذلك يضيف المتحدث: "في السابق كانت عمليات الرش تتم بطريقة على الشيوع، لأننا لا نملك صورًا جوية مفصلة عن الأماكن المعنية بالمعالجة، ما يتسبب في تضييع الوقت وإهدار كميات كبيرة من المبيدات التي تطال مساحات غير مشمولة بالعملية، وينتج ذلك خسارة في المواد، وتأثيرًا جانبيًا سلبيًا على المحاصيل السليمة. هذه الطائرة تحلّ كل تلك المشكلات باختصار الوقت، وحماية المزروعات، والاستعمال العقلاني للمواد الكيمائية، وتخفيض الكلفة وإدخار الأموال. ذلك أنها تتسم بتدخلات جراحية موضعية وتعالج 70 هكتارًا في الساعة الواحدة".
ارتبطت "الطيارة الصفراء" في الذاكرة الشعبية الجزائرية، بمجازر وحروب إبادة خلال ثورة التحرير، لكن طائرة بشير "الصفراء" التي أرادها قاذفة للحياة في المزارع الميتة، ومشروعًا مساهمًا في ثورة خضراء تخوضها السلطات الجزائرية كرهان جدي لضمان الأمن الغذائي في السنوات القادمة، حظيت كما يضيف: "باهتمام جدي بالغ من طرف السلطات العليا في البلاد، ثمة اتصالات متقدمة في الموضوع. زارني مسؤولون رفيعو المستوى للتكفل بمتطلبات المشروع، ودراسة طرق وكيفيات تجسيده عمليًا".
مكنت الورشة التي أنجزها بشير منذ سنوات من التكفل بتصميم وإنجاز أغلب مكونات الطائرة
في واقع الحال ما يشجع هذا المنحى كما يختم: " كلفة إنتاج هذه الطائرات الخفيفة في السوق الدولية زهيدة إذ لا تتعدى 1.5 مليار سنتيم، ويمكن للنموذج الجزائري جيرو، الذي كلفني أموالًا واستغرق 15 سنة من عمري، أن ينتج بأقل من ذلك، في حال ما دخل حيز السلسلة الصناعية".