لم يكن الطالب، الفلسطيني أمجد الغول، الذي يدرس السنة الخامسة بكلية الهندسة المدنية بجامعة باتنة، شرق الجزائر، والمستعدّ لعقد قرانه مع جزائرية في الأشهر اللاحقة، يتوقع أن تنقلب حياته رأسًا على عقب بقذيفة إسرائيلية واحدة، أعقبت عملية طوفان الأقصى في السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر الفارط.
إبادة..
كان أمجد يُتابع مع زملائه تطورات الحرب والعدوان على غزة، في غرفة إقامته بحي عمار عاشوي الجامعي بباتنة، شرق الجزائر، ثم فجأة أنقبض قلبه حين سمع في الليلة التي قطع فيها الكيان شبكة الإنترنيت والاتصالات عن القطاع، خبرًا عاجلًا في شاشة محطة عربية مفادهُ تعرّض منزل من عائلة الغول بمخيم الشاطئ لقصف عنيف خلّف مجزرة أخلطت العظام بركام البيت المتهاوي على ذويه.
يقول الطالب الغزاوي لـ"الترا جزائر"، متأثرًا: "لقد قصفوا منزل أقاربي يقول خبر مراسل قناة الجزيرة في غزة، لكنّي لم أكن أعرف هل قصف بيت عمي؟ أم قصف بيت خالي؟ تخيّل لم أنم طيلة الليل جرّاء التفكير في الأمر مع أنّ أحد الخيارين أصعب وأقسى من الآخر."
وأكمل كلامه وهو يحاول أن يمسك نفسه متذكرًا ذلك "لذا بقيت أتابع عواجل النشرات من وقت الإعلان عنه بلا تفاصيل في العاشرة ليلًا حتى التاسعة والنصف من صباح اليوم الموالي، قبل أن يتجلى لي شيطان التفاصيل، باستشهاد أربعين فردًا من عائلتي دفعة واحدة."
الطالب الغزاوي لـ"الترا جزائر": ضريبة التشبث بالأرض فرضت على أحفاد شعب الجبارين سقيها بالتضحيات والدماء حفاظًا على الوطن والمسجد الأقصى وباقي المقدسات أمام وحش إسرائيلي يصرّ على تهجيرهم
في المحصلة النهائية يروي الطالب بكثير من الحزن المكبوت والتحدي المُكابِر، جردة شهداء آل الغول مفصلًا "عمي وزوجته وأولاده، وخالي وزوجته وأولاده، وزوجات أولاد عمي وأولاد أولادهم، وخالي وأولاده وأحفاده، أطلقت عليهم قذائف ذات شظايا حادة تسمى الأحزمة النارية، وقنبلة واحدة من هذا الطراز كفيلة بمحو حي كامل من الخريطة، كما لو أنهم يرغبون في محو هذه السلالة من سجلّات الوجود والحالة المدنية والعائلية."
وقبل يوم، قارب عدد شهداء عائلته الرقم ثمانين، منذ بداية العدوان الإسرائيلي على القطاع، وهذا الصباح من مساء 21 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري الذي ألتقيناه فيه، وقد استأنف دراسته بعد أسابيع من الانقطاع والشرود الذهني جرّاء التأثر من الإبادة العائلية، فوجئ في القسم بخبر آخر وهو يطالع جوّاله فأضاف هامسًا حائرًا صابرًا: "هذا الصباح فقط، علِمت، خلال درس التطبيق استشهاد 25 فردًا آخرين من عائلتي، طويت الهاتف وخرجت قافلًا إلى غرفتي".
اغرورقت عيون رفاقه الفلسطينيين الجالسين بالقرب منه، ونحن نحاوره، ثم غاب وغابوا في لحظة صمت أليمة.
الحرب بدأت ليلة صفوة الحفاظ
من الصعب أن تحاور شخصًا استنزف ذهنه بمائة جنازة عن بُعد، لكن أمجد ظلّ صامدًا وراء ابتسامته المختصرة للألم، ولعلّ ملجئه أمام كل المصائب كما يقول أمر واحد لا شريك له: "عزائي وعزاؤنا رغم المآسي التي يكابدها الغزاويون المعزولون عن العالم بالحصار والجوع والعطش وتخلي العالم عنهم هو الإيمان بالله ووعي المقاومة التي تدير معركة بقاء القضية على قيد الحياة".
يعتقد الطالب الغزاوي بأن ضريبة التشبث بالأرض فرضت على أحفاد شعب الجبارين، سقيها بالتضحيات والدماء، حفاظًا على الوطن والمسجد الأقصى وباقي المقدسات أمام وحش إسرائيلي سائر منذ زمن طويل في وهم "أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض"، من خلال التهجير وإفراغ الأرض من أصحابها وإجبارهم على النزوح من غزة نحو شمالي سيناء المصرية، ومن الضفة إلى الأردن، في خطوة تالية.
لذا فاجئني بمعلومة شخصية قدمها من وحي مكوثه بغزة قبل أسابيع من بدء عملية طوفان الأقصى، يؤكد: "إن الحرب لم تبدأ يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر كما يعتقد كثيرون، بل بدأت يوم 17 آب/أوت الفارط، كنت في غزة شهر أيلول/سبتمبر الماضي لقضاء إجازتي قبل عودتي إلى الجزائر في أواخره، و أجزم لك أن الجميع هناك كان مقتنعًا بأن الأجواء الظاهرة والكواليس المستترة كلها كانت تَشِي بنذر حرب وشيكة لا محيد عنها، بدأت عندما أعلنت "إسرائيل" عبر صحُفها بأنها وضعت ثلاثة قياديين في لائحة الاغتيال هم يحي السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية، والقيادي المُطارد منذ عقود، الرجل بلا وجه، محمد الضيف، وصالح العاروري القيادي البارز في حماس."
أستوقفته في النقطة؛ فعقب جازمًا "عندما نظمت غزة احتفالية صفوة الحفاظ يوم 16 آب/أوت الفارط، حيث قام أزيد من 1600 شاب بعرض القرآن كاملًا، شعرت "إسرائيل" بالخطر العقائدي وهي ترى ذلك الحفل الذي تحدثت عنه وسائل إعلام غربية، فأعلنت حالة الطوارئ الأمنية قبل أن تبدأ بلغة الوعيد والتصعيد."
ليكمل: "وعندما كشفت لائحة الاغتيال وعت المقاومة الإسلامية أنها ستواجه إعصارًا إسرائيليًا لإبادة القضية، فسارعت العقول المدبرة إلى شن عملية استباقية تجلت باسم طوفان الأقصى كي تحصل على أسرى وهُم أثمن ما يمكن الحصول عليه، كورقة ضغط تستعمل لتعطيل مشروع الضربة الماسحة، وربح الوقت والترتيب للمراحل المقبلة. كنت هناك شهر أيلول/سبتمبر ونصحني كثير من الأصدقاء بالالتحاق بالجزائر قبل اندلاع الحرب وتجنبًا لعلوقي خلف معبر رفح".
"المسافة صفر" عزاءٌ عن بُعد المسافات
يعاني أمجد كغيره من البُعَدَاء عن الأرض من هاجس الترقب والقلق وقلة النوم، إذ يجتمع رفقة زملائه كل ليلة لمتابعة وتبادل الأخبار والمعلومات ورفع المعنويات من خلال المقاطع التي تبثها المقاومة عبر تطبيقات "تيك توك" "تيليغرام" و"واتساب" وغيرها من وسائل التواصل الأخرى، والتي تظهر الضربات الموجعة ضد الميركافا وجيش الدفاع الإسرائيلي وملاحم القتال من المسافة صفر.
فيعلق هنا ابن عائلة الغول مفتخرا: "أن يقوم مقاتل بمباغتة الدبابة ذات ثلاثة أنظمة إلكترونية دفاعية والمزودة بكاميرات عالية الدقة ذات 360 درجة بقذيفة توضع في خصرها الرخو، فهذا دليل على أن رجال نخبتها المدربون أحسن تدريب، باتوا بأنياب حادة وبخبرة تقنية تُتِيح لهم التعامل الذكي مع أحدث وحش بري. إن هذا يتطلب أمرين العقيدة والوعي، فجل كوادر وجنود المقاومة هم إطارات وأطباء ومهندسون، ولا عجب فنسبة التعليم في غزة تبلغ معدلًا مرتفعا هو 98.5 من المائة".
أما الاتصال بعوائلهم فلا يقع سوى نادرًا بخاصة بعدما قطع الإنترنيت وضربت الخطوط الدولية، يشرح "من العسير أن تصل المكالمة، أما إذا تمت فلا تدوم سوى دقائق من قبيل نحن بخير والحمد لله رغم كل ما يحدث"، أما الرسائل النصية عبر وسائل التواصل فيمكنك أن تنتظر ساعات لتتلقى جوابًا مقتضبًا "نحن بخير كيف حالك أنت وشو أخبارك"؟
الدم أقوى من السيف
يسأله "الترا جزائر" عن أحوالهم تبعًا لمّا يتلقاه عبر تلك الاتصالات فيرد مبتسما: "معنوياتهم مرتفعة جدًا، فالناس هناك يعرفون أن ضريبة البقاء في الأرض هي الدم. وهي أحسن ردّ على المخطط الذي يريد نتانياهو وحكومته المتطرفة تنفيذه في الجغرافيا. يعرفون أن الحفاظ على القدس والمسجد الأقصى وأرض فلسطين يتطلب تضحيات جسام، كما ضحى 20 مليون روسي من أجل دحر الاحتلال النازي."
مواصلًا كلامه: "صحيح هي مأساة أن تفقد غزة ذات 2.5 مليون ساكن أكثر من 24.000 شهيد في شهر ونيف، لكن الذين يموتون يعون بأن الدم أقوى من السيف، وبأن الموت فوق الأرض من أجل الأرض هي أحسن صفعة ضدّ صفقة القرن".
دأبت "إسرائيل" بمعاونة صمت قوى كبرى على نشر الاستيطان ضاربة عرض الحائط حل الدولتين وكل قرارات الأمم المتحدة البالغة أكثر من ثمانين قرارا، بعد توقيع اتفاق أوسلو أيلول/سبتمبر 1993، بالموازاة مع سعيها لفرض الحل النهائي، أي إنهاء حلم البقاء بالمقاومة في الأرض بإبادة سكان تلك الأرض، لكن محدثنا الذي يعرف هذا المسار جيدًا يخبرنا أنّ "الفلسطينيين يعرفون تفاصيل النكبة، لقد قيل لمن سبقونا ارحلوا لساعات وستعودون غدًا، لكن ذلك الغد لم يأت أبدًا وتشرد الملايين عبر الشتات."
"لذلك فأهل غزة الذين تعاضدهم مقاومة تتكون من 50.000 مقاتل متطوع للموت، يعرفون أن التخلي عن الأرض معناه اللاعودة، وستكون نكبة على النكبة الأولى لذلك فهم صامدون رغم كل شيء. وأصلًا فإن كثير من سكان غزة هم مهجرون يقيمون في 7 مخيمات وهم يرفضون التهجير على التهجير"، يصف الطالب الفلسطيني بقسم الهندسة المدنية بجامعة باتنة مأساة الغزيين في المخيمات.
كما أنّ "إسرائيل" تدفع لكل ذلك، وفق محدث "الترا جزائر"، عبر ارتكاب مجازر في أماكن مزدحمة وفي المستشفيات والمدارس "حتى توقع أكبر عدد من الضحايا ليكون الرقم المرعب ذا تأثير سيكولوجي يثير الخوف في الآخرين ويدفعهم طوعا للرحيل القسري، يجب أن نعلم أن ما ألقي على غزة من قذائف يفوق قنبلة هيروشيما أضعافًا مضاعفة".
نعيش معًا أو نموت سويًا
وفي ردّه عن سؤال "هل تتمنى أن تكون هناك أم هنا؟"، فأجاب بعفوية ودون تخمين "صدّقني أتمنى أن أكون في غزة، مجتمعًا في البيت مع أهلي، ليجري عليّ ما يجري عليهم، نعيش معًا أو نموت سويًا. ليس هناك ما أقسى من أن يأتيك نعيُ أقاربك عبر المحطات الفضائية. هذا أعنف عليَّ نفسيًا، وأفظع من الموت."
يصمت قليلًا ثم يختم "لكنهم لم يُبيدوا عائلتي فحسب، رأيت في الشاشة دبابة تدعس الطريق الفاصل بين مدرستي الإعدادية والمتوسطة، وهذا يعني أنهم سفكوا، أيضا، طفولتي وذكرياتي".