26-يوليو-2024
(الصورة: فيسبوك)

(الصورة: فيسبوك) عبد الرزاق بوسكار

يُعتبر فنّ النحت من بين أقدم الفنون التي وجدت على كوكب الأرض مع بدايات الوجود الإنساني، حيث دأب البشر على ترك آثار تحكي أسلوب عيشهم وثقافاتهم وحضاراتهم المختلفة حيثما حلّوا، من خلال الرسم والحفريات والنحت بمختلف أنواعه.

من بين أبرز ما نحته الفنان بوسكار نجد شخصيات ثورية مثل العقيد سي الحواس، مصطفى بن بولعيد، إضافة إلى ملوك نوميديا

في الجزائر، وعلى قلّة ظهور الفنانين الذي يمتهنون النحت، تقاوم بعض الأسماء لتظل على قيد الإبداع من خلال ما تقدمه للجمهور من أعمال فنية أصبحت تكتسب يومًا بعد يوم جمهورًا نوعيًا متعطشًا للجمال، خاصة مع انتشار التفاعل الإلكتروني الذي أصبح يروج للعمل الجميل، ويُطالب بتحسين نوعية ما يقدم للمواطن، بعد حملات عديدة شنت لوقف الأعمال المشوهة التي انتشرت مؤخرًا عبر التراب الوطني.

في حوار لـ "الترا جزائر" نتعرف أكثر على الفنان عبد الرزاق بوسكار و مجال عمله الفني، والحديث عن مشواره وميولاته الفنية، علاقة الناس مع فن النحت، عن التحديات التي يواجهها الفنان في الجزائر، وعن تعامل الجزائري مع هذا الفن بين التذوق الجمالي والمعتقد الديني.

عبد الرزاق بوسكار

ولد الفنان عبد الرزاق بوسكار (1970) بمنطقة مشونش في ولاية بسكرة، جنوب شرق الجزائر، وهو خريج المدرسة الوطنية للفنون الجميلة لولاية باتنة شرق البلاد، ويشغل حاليًا منصب أستاذ التربية الفنية بمتوسطة الشهيد عثماني محمد بمشونش.

شارك الفنان في عدة معارض محلية، جماعية وفردية، كانت قد نظمت في العديد من المناسبات عبر بعض ولايات الجزائر، مثل عنابة، سطيف وبسكرة.

أثنى الجمهور كثيرًا على جمالية منحوتاته ودقتها من خلال ظهوره في عدد من المشاريع الفنية، حيث نجد لمساته في ديكورات تزيينات المحيط السياحي، إضافة إلى مشاريع إنجاز منحوتات الشخصيات التاريخية التي ميزت التاريخ الجزائري بمختلف حقبه الزمنية.

من بين أبرز ما قدم، نجد شخصيات ثورية مثل العقيد سي الحواس، مصطفى بن بولعيد، إضافة إلى ملوك نوميديا ( ماسينيسا، صيفاقس، يوغرطا، بوبا الأول والثاني)، وشخصيات أثرت الساحة الفنية الجزائرية مثل الفنان إيدير، الفنان المجاهد سباح المكي والكاتب الفنان نجاحي مسعود، ودرع مهرجان إيمدغاسن السينمائي.

عبد الرزاق بوسكار أعمال

  • هل كان من السّهل احتراف هذا النوع من الفن، سواءً كان ذلك في مسقط رأسك أو في الجزائر عمومًا ؟

في الحقيقة، وبشكل عام، لم أصادف صعوبات كثيرة في المكان الذي نشأت وعشت فيه، لأن سكان هذه المنطقة بالذات يتذوقون الفن ويحبونه، كما أنهم يقدّرون الفنّان، رغم أن مجال النّحت فيه شيء من الجدل، كما يُنظَرُ إليه بشكل مختلف في ما يسمى بالعالم الثّالث، ولدى العرب المسلمين خاصة، نظرًا لرؤى الدين والشرع، وهذا ما يفسّر المفهوم الخاطئ الذي يقع فيه بعض المعارضين، وكذلك النظرة السيئة التي ينتهجونها  تجاه هذا الفن في بلادنا.

مع ذلك، وبصفتي "ممارسًا" لهذا الفن، أتمتع بحرية العمل والتعبير من خلاله، وإيصال ما أريده عبر الأعمال التي أقدمها في كل مرة.

  • هل تميل إلى المدرسة الحديثة في النّحت، أم أنك تفضل المدرسة الواقعية؟ وما سبب ذلك؟

أظن أنني أميل كثيرًا إلى المدرسة الواقعية، وهذا ما يظهر في ما أقدمه من أعمال، كما أنني لم أخض بعد في عالم الفن الحديث، رغم أنه فن يُحاكي العصر ويقدم للعالم رسائل فلسفية وحضارية مختلفة تواكب الأحداث الحاصلة في هذا العالم، كما أنه يخاطب المجتمع بغية السير به في طريق التقدم الفكري والفني.

أظن أن مجتمعنا عليه أن يكون مستعدًا في المقام الأول لتقبل فكرة النّحت بالأساس، ثم يمكنه بعد ذلك أن يتميز باختلاف الأذواق نحو مدارس الفن المختلفة.

عبد الرزاق بوسكار أعمال

  • يقول الفيلسوف جان بول سارتر إن "النّحت حالة حسيّة تقول سرّها في بؤر الوجود".. هل تؤمن بفلسفية النحت ودوره في تطويع الرؤى الوجودية لدى الفنان وتخليدها؟

نعم، إن ما قاله الفيلسوف سارتر ينطبق على كل فنّ رساليّ ينطلق من فكرة فلسفية يريد الفنان إبلاغها، سواء كان ذلك للأجيال الحاضرة أو الأجيال القادمة على مرّ العصور.

كل هذا مشروط بأن يكون الفنان الممارس لهذا النوع من الفنون صاحب رؤى عميقة، وذا مذهب يبلغ من خلاله أفكارًا حضارية ومجتمعية، تحتمل "الرقي" كما يمكن أيضًا أن تكون عكس ذلك، طبعًا حسب طبيعة وأهداف هذا الفنان.

  • لمسنا الكثير من الإتقان والاحترافية في أعمالك الفنية التي يتم تداولها عبر مواقع التواصل، ما أثار ردود فعل إيجابية.. هل تظن أن الفنان بشكل عام بحاجة إلى اللجوء إلى مواقع التواصل للترويج لأعماله في ظل قلة النشاط وسوء الاهتمام بهذا الفن في الجزائر ؟

أظن أن الاحترافية والإتقان مطلوبان جدًا لاحتراف فنّ النحت، شخصيًا، أحب أن يستمتع الناظر إلى أعمالي بما يراه من تفاصيل، لا يمكنني الاستخفاف بالذوق العام وتقديم شيء لا يرقى إلى المستوى المطلوب، وهذا ما أراه مكسبًا من خلال الآراء التي تصلني حول ما قدمته من أعمال إلى حد الآن، كما أنني أحاول نقل ذلك الإحساس الذي انتابني بعد الاطلاع على الأعمال المختلفة التي قُدّمت للبشرية من طرف عباقرة هذا الفن.

يمكن القول أن إعادة مراجعة العمل -غير المقنِع- الذي يجعل الإنسان في حالة عدم فهم -نظرًا لوجود خلل ما فيه بحكم البعد عن الاختصاص-  شيء ضروري جدا، كما أنني أفضل تفادي تقديمه للناس بالأصل.

أما في ما يخص مواقع التواصل، ففي اعتقادي أنها قد تساهم في الترويج للأعمال بشكل جيد، كما أنها تُعدّ أيضا طريقة من بين طرق الكسب للإنسان في الزمن الحالي، لكن الأصح في رأيي يبقى دائما في تقديم الأعمال بشكل احترافي للهيئات المختصة، دراستها وإنجازها في أرض الواقع، وأن تفتح الهيئات المختصة مسابقات نزيهة وخاصة لعرض الأعمال واقتناء الأحسن منها.

عبد الرزاق بوسكار أعمال

  • ما سر انتشار الأعمال "المشوهة" التي نراها في السنوات الأخيرة عبر ربوع الوطن؟

لا شك في أن بلادنا تمتلك من الطاقات والقدرات البشرية الكثير، وهذا يشمل جميع المجالات، لكن طريقة استغلال معظمها تبقى -مع الأسف-  سلبية في معظم الأحيان، وينطبق ذلك أيضًا على الفن في الجزائر، حيث يتم الاستغناء عن خدمات الفنان الحقيقي لإنجاز مشاريع فنية حساسة، وتوكل المهمة لأي كان، خاصة تلك المشاريع التي يستولي عليها مقاولون لا علاقة لهم بالفن والنحت، حيث يسارعون إلى قنص المشاريع وإنجازها في ظرف قياسي دون مراعاة أدنى الشروط الجمالية والفنية للعمل، وهذا ما أراه شخصيا سببا لتدني الذوق المقدم في الأعمال التي يتم تداولها والحديث عنها موخرا.

  •  هل الفنان في الجزائر غائب أو مغيّب؟

في الحقيقة، إن الفنان غائب ومُغيّبٌ في آن، فقد يكون غائبا من خلال الطريقة التي ينتهجها للترويج لأعماله الفنية، أو الأسلوب الذي يتعامل به الهيئات المختصة، وهذا مرتبط بشخصيته وكيفية رؤيته للأمور.

لكن في المقابل، هنالك فئة مهمة قامت بعدة محاولات جادة، وقدمت ملفات أعمال ترقى لمستويات عالية، لكنها لم تؤخذ بعين الاعتبار، ولم تُعامل بجدية.

أظن أن هذه الممارسات قد تطفئ رغبة الفنان في العمل هي ما تجعله أيضا مُغيبا بطريقة أو بأخرى.

  • من هم الفنانون الذين تأثرت بهم في مجال النحت والرسم والخط العربي ؟ أي هذه المجالات أقرب إليك؟ وهل تعتقد أن التأثيرات الفنية للمدارس المختلفة قد تساهم أيضا في خلق شخصية فنان مستقل بخطه الفني؟

أحب ممارسة جميع الفنون وأستمتع بها، سواء كانت الرسم، الخط أو النحت، لكنني أميل في الواقع إلى الاشتغال في النحت أكثر لأنني أجد فيه راحتي.

من الجليّ أن يكون فن الرسم هو الأساس الذي ننطلق منه، وهو قاعدة كل من يحترف النحت، حيث وجب أن يكون النحات رسامًا جيدًا من الطراز الأول.

أما عن فنّ الخط، وعلى الرغم من أهميته وجمالياته العديدة، فهو يبقى مهمشًا بعض الشيء لدى عامة الناس ربما لصعوبته، فهو يخضع لقواعد موحدة وجب على ممارسه أن يحترمها.

يمَكّننا تعدّد المدارس الفنية والأساليب المنتهجة لدى كل فنان من الحصول على تأثير إيجابي يؤدي إلى تكوين فن راقٍ وحضاريّ، كما أنه من غير الكافي أن نقدّم الفن كوجبة بصرية موجهة للمتعة، إنما وجب أن تخوض الموهبة طريقها بشكل صحيح في مجال التصميم والابتكار، تماما كما استغلّ الغرب ذلك في الأعمال التي قدمها.

أما في ما يخص الإلهام، فهنالك مجموعة كبيرة من الفنانين الذين تأثرت بهم وانبهرت بأعمالهم، أولهم طبعًا مايكل آنجلو في النحت القديم، ليوناردو دافنشي، إضافة إلى بعض المستشرقين كنصر الدين ديني.

أما في فئة النحاتين المعاصرين، فأحببت جدًا الأميركي دافيد ليمون الذي ركزت أعماله على أصوله من الهنود الحمر.

يعتمد النحت بالأساس على مواد مختلفة، ونستطيع تسمية ما أقوم به بالتشكيل والقولبة للوصول إلى نتيجة جيدة ومتقنة، وهذا العمل عموما هو إزالة الجزء من الكل للوصول إلى الشكل المطلوب، فالنحت إزالة والتشكيل إزالةٌ وإضافة.

عبد الرزاق بوسكار أعمال

  • تعد التّماثيل والمنحوتات بمختلف أشكالها علامة جمالية تميز كل بلد عبر العالم، كما أنها شاهد على تعاقب الحضارات وتاريخ الأرض التي توجد بها. هل يمكن للوعي الجماعي لدى الجزائريين أن يدرك ذلك يوما ما، وأن يسعى لحماية تراثه القديم والجديد الذي يقدمه الفنانون حاليا بعيدا عن تأثيرات المعتقد الديني ؟

أؤمن أن الأجيال القادمة ستهتم بالمحافظة على هذا الفن، وأن هنالك من سيعمل على القيام بدراسات معمقة في هذا المجال، إنها الطريقة الأنجع والأرقى لتوثيق ما نقوم به حاليا والحفاظ عليه من الزوال، حيث سيكون هنالك ربط وثيق بين الماضي والحاضر في الطريق نحو المستقبل.

طبعًا، يتطلب كل هذا عملًا كبيرًا وجادًا يكمن في محاولة فك شفرة العلاقة المبهمة بين الفن والدين، والعمل على تخفيف تلك العداوة التاريخية بينهما، والتي خلقها البعض ليحاول طمس الجمال تحججا بالدين.

أظن أن الحل هو انتهاج التفكير العقلاني والتجرد من التناقضات الفكرية لدى الفرد الذي يعتبر التمثال صنما على سبيل المثال، إضافة إلى محاولة التخلص من مخاوف عبارة "حرام ولكن ..."

  • ما الرسالة التي يحملها الفنان داخلك للإنسان؟

أجد من الصعب توجيه رسالة كلامية للإنسان، كما أنني لم أبلغ بعد في رأيي صفة الفنان ذو الرسالة، فأنا حاليًا أوثق بأمانة ما شاهدت، في مجال ضيق نسبيًا، وأظن أنها قد تكون رسائل روحية لهم بشكل ما.

الفنان عبد الرزاق بوسكار لـ "الترا جزائر": البصر حاسّةٌ ذكية جدًا لا تقبل التلوث البصري الذي يستخف بقدراتها

في المقابل، أفضل توجيه رسالتي للفنانين الممارسين لأي عمل جمالي يقدم للبشرية، وأقول لهم أن الإتقان هو سر العمل الجيد، فالبصر حاسّةٌ ذكية جدًا لا تقبل التلوث البصري الذي يستخف بقدراتها، فلا تستخفوا بها.