02-أكتوبر-2023
محيي الدين بطارزي (الصورة: الجزيرة)

محيي الدين بشطارزي (الصورة: الجزيرة)

"بشطارزي في أميركا.. الرحلة المتأخرة"، كتاب من جحم صغير من تأليف الكاتب والإعلامي حميدة عياشي، من إصدارات دار الوطن، يُعيد حميدة في هذا الكتيب رصد وقراءة قصة سفرية محيي الدين بشطارزي إلى مدينة نيويورك الأميركية، الرحلة التي جاءت في أواخر عطاءه الفني وقد شارف على الثمانينيات من العمر. شخصية بشطارزي المنسية، يُحاول الكاتب إعادة احياء شخصيته الفنية مع إيجاد تقاطعات رفقة بعض الشخصيات التاريخية، وكذا مفترقات مع محطات سياسية وأيديولوجيا عايشها بشطازري ضمن النسق الجزائري.

تمكن حميدة عياشي من وضع مقارنات ومفارقات بين شخصية بشطارزي الفنية وشخصية كاتب ياسين الفكرية والأيديولوجية

 يتخطى الكاتب السياق التاريخي، ومن خلال قراءة مُتميّزة واستنباط مُحكم، استطاع حميدة عياشي وضع مقارنات ومفارقات بين شخصية بشطارزي الفنية وشخصية كاتب ياسين الفكرية والأيديولوجية، وما هي نقاط التباين بين بشطارزي أب المسرح الجزائري، وشخصية مصالي الحاج أب الوطنية، ودور كليهما على الساحة السياسية والفنية آنذاك، وما الذي يجمع بشطازري كشخصية ثقافية وفرحات عباس كرجل سياسي؟

من جانب آخر، يضع حميدة عياشي لمسة إنسانية حول السفرية الأخيرة في العمر الفني والزمني لبشطازري، واضعًا نقطة استفهام حول اكتشافاتنا للعالم الآخر في أواخر حيواتنا الفكرية والعمرية، هل نعيد النظر في كل معتقداتنا وأفكارنا، هل نسائل أنفسنا حول بعض الخيارات والقرارات، هنا أيضا يَقف كاتب "ذاكرة الجنون" مع تجربة المفكر الفلسطيني إدوار السعيد حول الموضوع.

حميدة العياشي

بشطارزي وكاتب ياسين   

بين بشطارزي وكاتب ياسين هناك اهتمام وتعلق مُشترك بالعمل المسرحي، لكن أداء الرجلين على مستوى الفضاء المسرحي والمحتوى النصي والسردي يختلفان تمامًا، مرجع هذا التباين يعود إلى اختلاف مرجعيات التكوين الأسري والتربوي والفني، والمتباعد بين الشخصيتين، علاوة على فارق السن بين بشطارزي (من مواليد 1897) وكاتب ياسين الذي وُلد في العام 1929.

كما أن العامل المشترك هو العيش في ضمن الحكم الكولونيالي، الذي جعل المسرح هو  الفضاء للوجود الذاتي والتعبير عن الانتماء الوطني والهوياتي، بيد أن الفارق في الانتماء الزمني أنتج تباينًا في التصورات والعقيدة الوطنية، فبينما كان بشطارزي أقرب إلى التيارات الاندماجية والإصلاحية التي ظهرت ما بعد ألفية الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830-1930) كان كاتب ياسين أقرب إلى التيار الاستقلالي والثوري، الذي صقل الأفكار الثورية لكاتب ياسين بعد أحداث أيار/ماي 1945 والتي خلفت الألاف من القتلى والمفقودين.

جدير بالذكر،  أنه من خلال وضع مقارنة بين محيي الدين بشطارزي وكاتب ياسين والإشارة إلى انتماء بشطارزي إلى التيار الإصلاحي وتبني كاتب ياسين الفكر الاستقلالي، حاول حميدة عياشي إبراز التطور السياسي والفكري في تاريخ الحركة الوطنية، حيث بعدما سيطر الطرح الإندماجي كخيار وفشل مشروعه ما بعد أحداث 5 أيار/ماي 1945، ظهر الفكر الاستقلالي والثوري كنتيجة حتمية من أجل الحرية والكرامة.

بشطارزي ومصالي الحاج

يشترك بشطارزي ومصالي الحاج في الانتماء إلى الأصول التركية-الجزائرية، ويجتمعان في التشبع بالثقافة الروحية الصوفية، والرغبة في الحديث ومخاطبة الجماهير ولديهما قوة في الالقاء والمناظرة، لكن يفترقان في أداء الأدوار على الساحة الوطنية، بينما اختار بشطارزي حلبة المسرح كمنصة من أجل بث الوعي والحس الوطني، كان مصالي الحاج يَقف مخاطبًا الناس على الأرصفة وفي المصانع، ويزور القرى والمداشر ليبعث في الضمير الوطني الروح الوطنية والثورية.

كتاب حميدة عياشي

هنا، يكتب حميدة عياشي: "كان الأول (بشطارزي) يحيي الروح الساكنة بجماليتها ونغماتها المعبرة عن تجلي الجذور الثقافية للذات التاريخية، وكان الثاني (مصالي الحاج) يمنح بفيض اندفاعه ورغبته الجامحة في صناعة الحرية بواسطة التحريض".

عندي هذه النقطة، حاول حميدة عياشي إبراز تعدد الأصوات النضالية وأشكال المقاومة السلمية في التاريخ الحركة الوطنية قبيل اندلاع الثورة المسلحة، وإظهار التكامل القائم بين الخطاب الفني والخطاب التحريضي في بلورة الوعي الوطني.

السفر وصف العاصفة

يصف حميدة عياشي في كتابه الظروف السياسية والأيديولوجية التي عاشتها الجزائر إبان فترة السبعينيات، وهي الفترة التي يسافر فيها بشطارزي إلى مدنية نيويورك بعد طلب من الملحق الثقافي بالسفارة الأميركية.

كانت فترة حكم هواري بومدين تتميز بالعداء إلى كل ما يرمز إلى القوى الإمبريالية، وشهدت الفترة أيضًا اعتداءات كثير لجيش الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين، وتزامنت مع حرب أكتوبر 1973، واحتضنت الجزائر الفهود السود وهي حركة حقوقية لسود الولايات المتحدة الأميركية كانت تؤمن بخيار العمل المسلح في تجسيد حقوق حركة السود، وبناءً عليه كانت الأجواء بالجزائر مشحونة بالكراهية تجاه الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، حيث يختار بشطارزي السفر إلى أميركا أولًا كتحدٍ لهذا التوجه، وثانيًا محاولًا إيجاد أجوبة، ومسألة الذات، وتحديد العلاقة بين الماضي والمستقبل.

هنا، يرصد حميدة عياشي في هذا المقطع المشهد السياسي والأيديولوجي للجزائر إبان فترة حكم هواري بومدين، وكأنه يرغب في فتح نقاشًا حول جملة من الخيارات الأيديولوجية والدبلوماسية التي انتهجتها الجزائر حينها، وكيف تشكّلت العقيدة الصلبة تجاه الغرب الإمبريالي والديمقراطي.

يشترك بشطارزي ومصالي الحاج في الانتماء إلى الأصول التركية-الجزائرية، ويجتمعان في التشبع بالثقافة الروحية الصوفية

ختامًا، جاء الكتاب لرفع الستار عن شخصية فنية مهمة، كانت ضحية السوء الظن والتشكيك في وطينته، إلى غاية  تمت إعادة الاعتبار له وتمسيه المسرح الوطني الجزائري الذي بات يحمل اسم محيي الدين بشطارزي، تكمن القيمة المضافة في الكتيب أيضًا هي رسم معالم تطور الفكر السياسي في تاريخ الحركة وطنية عبر شخوص كفرحات عباس ومصالي الحاج وكاتب ياسين، وثمة أيضًا الاطلاع على السياق الأيديولوجي والدبلوماسي للجزائر السبعينيات.