قد يتساءل بعض الصحافيين الجزائريين اليوم، عن جدوى اشتغالهم في حقل الإعلام وسط جملة من العوائق والتعقيدات، وفي ظل جملة من التطورات السريعة التي عرفها المجال في السنوات الأخيرة، وانخراط كثيرين في الصحافة الرقمية والقنوات الإلكترونية وصحافة المواطن والبودكاست واليوتوب وصولًا إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تحرير بعض المقالات، توجد العديد من التجارب التي اصطدمت بجدار هذه التحولات، وفضلت إمّا التكيّف مع الوضع أو الانسحاب.
هناك معطيات كثيرة تنبئ بأن الصحافة الجزائرية باتت مخيّرة بين أمرين هما: المعلومة السريعة والمعلومة الرسمية
قدر يطرح بعضهم اليوم سؤالًا من قبيل: لماذا لا نعود قليلًا إلى الخلف وننظر إلى أنفسنا كصحافيين في المرآة، فربما نُدرك أننا أخطأنا الطريق أحيانًا، حاد القلم عن عشرات الأهداف في أحايين كثيرة، الصحافة تطويع اللّحظة وتوثيق الأحداث وتأريخ للوقائع، وملامسة تجارب الناس ومشاعرهم، وتجسيدًا لقصصهم بطريقة أخرى، وبمشاهد يمكن من ورائها أن تعطي للمعلومات الروح المتجددة وللأخبار دورة حياة مستمرّة، أما الباقي فهي هوامش.
من بين الهواجس التي اهتم بتفكيكها عدد من الكتاب والصحافيين في الجزائر، الصراع الدائر والدائم بين ماهي الصحافة في الجزائر قبل زمن الإعلام الرقمي، وبعد هجمته القوية في السنوات الأخيرة؟ وتطرح العبارة أعلاه وهي من لقاء إعلامي على لسان الكاتب الصحفي الراحل عبد العزيز بوباكير في سنة 2018، أن "البعض يتوجس من الصحافة من منظور تقليدي ونحن على أعتاب الانفجار الإلكتروني، والمعلومة صارت أكثر من سلاح في يد الملايين، إذ يمكن لأحد أن يلعب دور المنجّم الذي يقرأ ما في الغيب، ولا أحد يمكنه أن يتنبأ بوضع الصحافة في 2024، هل يمكن أن نرى أنفسنا في مرآة الحقيقة، أو مرآة الصحافة؟ هل نحن أمام صحافة الكم التي تحتوي مجموعة غير متناهية من الصحف الورقية والإلكترونية؟ أم سنلجأ إلى توقّع إنهاء حِقبة الصحافة والبحث عن الخبر الرسمي؟ أو نحن في زمن "نهاية الصحافة كسلطة ومنهج ومسار؟".
ممارسة يومية
تخلّصت الصحافة الجزائرية في بدايات تسعينيات القرن الماضي من بعض القيود، وذلك عقب الانفتاح السياسي والتخلي شكلًا عن نظام الحزب الواحد، وضمان تعددية حزبية بتعديل دستور 1989، فبرزت عدة جرائد من رحم الصحافة العمومية، كانت على قلتها تضطلع بدور الرؤية المغايرة أو الاتجاه الآخر، والانفتاح على الجزائر العميقة من الداخل أو التخلي عن صحافة النظرة العلوية إلى صحافة الأسفل، تلك القضايا التي لم نكن نراها في الإعلام العمومي.
عشرات الصحفيين أقبلوا على خوض مغامرة مشاريع صحفية تحت اسم "الصحافة المستقلة" أو ما يمكن وسمه بـ "الصحافة الخاصة"، لكن الكثير من الأسماء خاضت معارك ضارية في بداية عشرية دامية، كلفت البلاد الآلاف من الضحايا من بينهم إعلاميين، لترفع الصحافة وقتها شعار "الكلمة الحرة" لكنها سيقت إلى مساحات أخرى من فضاء الإعلام، وشهدت الساحة عناوين كثيرة من مؤسسات صحفية، وغلبت كفة الكم على كفة المعنى والمحتوى والتعددية الإعلامية المرجوة.
خلال "الفترة الذهبية" في بدايات الصحافة الخاصة في الجزائر كما سُمست في ذلك الوقت، شهدت مخاضًا عسيرًا ما بين 1991 إلى غاية 1997، يرجع إلى تفكيك القيود التي كانت مفروضة في عهد الحزب الواحد والصحافة الأحادية النظرة والتحليل، امتدت صداها على مدار ربع قرن من الزمن، غير أنها "فرصة ضائعة بحكم الحاضر" مثلما تتكلم الأقلام الأكاديمية حول تلك الفترة.
لم يتنبأ الأكاديميون والمهنيون أن الصحافة الجزائرية كانت ستلقى "الانتكاسة"، هكذا رد الأستاذ نور الدين بوعون على سؤال: "كيف تنظر للإعلام الجزائري اليوم بعد 33 سنة تقريبا؟"، مردفًا أنها انتكاسة بمعنى الكلمة، إذ ما تعيشه الصحافة الجزائرية اليوم هو وليد عدم قدرتها على الصمود في ظلّ تحديات كبرى شهدتها الساحة السياسية فترة حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة (1999-2019)، خلال مرحلة عرفت الصحافة عدة حالات من صعود ونزول واستقرار، تزامنت مع الإرهاب والمعالجة الإعلامية للأزمة الأمنية وبدء مسيرة البناء والتشييد ثم مرحلة البحبوحة وشراء السلم الاجتماعي إلى غاية بدء الحراك الشعبي. وشهد هذا المسار الخطي أو الأفقي تقلبات متطلبات المنظومة الإعلامية برمتها، من موارد بشرية تقتضي تكوين إعلاميين من حيث التحرير والالتزام بأخلاقيات المهنة، ومتطلبات مالية وتقنية أيضا فرضتها التكنولوجيا.
مسايرة التقنية
اقتران الإعلام بالثورة التكنولوجية التي ألقت بظلالها على محتوياته، ومطالب مسايرة التحولات، فرض على السلطة الرابعة، أن تنحني أمام عاصفة التقنية، وحسبنا في ذلك كما وصفها البروفيسور في الإعلام نصر الدين لعياضي "صحافة الفاست نيوز"، أو الصحافة الاستعجالية وكأن الذي لا ينشر الخبر أو المعلومة حتى وإن كان دون مصدر ستفوته الرحلة. في هذه المستجدات التي فرضتها الثورة التكنولوجية وصحافة الإنترنيت، شهدت الساحة الإعلامية تقلبات تشريعية بين مد وجزر، أمام تدفّق المعلومات السريعة وتوجه الجمهور إلى الاطلاع على أي معلومة من خلال السوشيال ميديا، أو ما يسمى بــ"صحافة الأصبع" أي تقليب المعلومة بأصبع اليد والبحث عن خبر مقتضب لا يهم إن كان صحيحا أو كان مزيفًا.
لكن السؤال الأكثر إلحاحًا اليوم: هل لازال الإعلام في الجزائر يؤدي دوره؟ وهل البيئة التشريعية تسمح بذلك؟
هناك معطيات كثيرة تنبئ بأن الصحافة الجزائرية باتت مخيّرة بين مستويين الأكثر ظهورًا في الساحة وهما: المعلومة السريعة، والمعلومة الرسمية، فالأولى تعني الاستجابة لمقتضيات التكنولوجيا التي لم تعد تفرق بين المعلومة والأحداث فالأهم هنا حسب الكاتب الصحفي كريم ساحلي، هو ملاحقة الجمهور، دون التحري والتدقيق في صدقية الخبر، أما الثانية تعني متابعة النشاطات الرسمية للمؤسسات الوزارية والقطاعات الحيوية في أي منطقة كانت، كما يقول ساحلي "دون البحث حول ما يسمى في خلفيات الخبر أو محاولة طرح تساؤلات حول أي معلومة تذكرها بيانات تلك القطاعات، أو بالأحرى طرح الأسئلة العميقة التي تبدأ بـ" كيف؟ ولماذا؟ ".
وما يسير في تناسق مع ما ذكرناه سابقًا، فإن التشريعات الناظمة للجهاز الإعلامي في الجزائر، أصبحت "تخنِق" الصحافة أكثر مما كنا نتصور، إذ لفت المتحدث إلى أن ما عاشته الجزائر خلال العشريات السابقة كان يسير نحو انفتاح أكثر للمنابر الإعلامية، غير أن ما " لمسناه اليوم هو تعدد المنابر أو المؤسسات الإعلامية ولكن خفوت كبير للعمل الإعلامي الحر أو الإعلام الذي يراقب المؤسسات الحكومية ويقدم مختلف وجهات النظر".
توازن
مع الإفراج عن القانون الجديد للإعلام في الجزائر، تسعى الحكومة إلى "خلق توزان بين الحرية والمسؤولية"، وتنظيم النشاط الصحفي الذي عرف " فوضى كبرى خلال السنوات الأخيرة"،وبالإضافة إلى "منح الصحافي الحماية القانونية لأعماله وحفظ حقه في عدم نشر أو بث أي خبر أو مقال أو عمل أدخلت عليه تعديلات جوهرية دون موافقته"، ينتظر إنشاء سلطة ضبط الصحافة المكتوبة والإلكترونية التي تعد "هيئة عمومية تتمتع بالاستقلال المالي وتضطلع بمهام ضبط نشاط الصحافة المكتوبة والإلكترونية".
ومن مقترحات القانون استحداث مجلس أعلى للآداب وأخلاقيات المهنة تؤول إليه مسؤولية الضبط والتدخل وإعداد ميثاق يقتدى به للارتقاء إلى ممارسة إعلامية مسؤولة، مع استبعاد للمال الفاسد.
بالرغم من سياسة شرعنة الإعلام وإعادة تنظيمه، إلا أن التطبيق يقع ضحية مسألتين لهما من الأهمية الشديدة في إطار الممارسة الصحفية، تتعلق الأولى بـ" تغييب الحق في الحصول على المعلومة"، في علاقة بالوصول إلى مصادر المعلومات في الأجهزة العمومية، أما الثانية، تتصل أساسًا بابتعاد الصحفيين عن المعالجة الإعلامية للقضايا الكبرى التي تعرفها الجزائر والاكتفاء فقط بمعلومات أغلبها "جافة" أو " لا تملك نَفَسا طويلًا في التأسيس للصحافة المتأنية التي تطرح الأسئلة الكبرى".
عرف الإعلام أيضًا فترة من الخمول والكسل بسبب غلق المؤسسات الإعلامية ومحاولة تكميم الأفواه، والمتابعات القانونية ضد الصحافيين وسجنهم بتهم مختلفة لا تمت بصلة إلى عملهم الإعلامي وتوريطهم في قضايا خطيره، ورفعت بعض الأقلام شعارًا يقولون فيه: "الحرية مقابل الصمت"، بالرغم أن السلطة كثيرًا ما تلوح بخطابات تتمحور حول وعودها بــ"تحرير الإعلام" والتنفيس عليه من خلال واجهات إعلامية إلكترونية كفضاءات لممارسة الصحافة ولكن من بوابة الاحتفاظ بما هو رسمي وبيانات حكومية وخفوت صحافة المبادرة.
عرف الإعلام أيضًا فترة من الخمول والكسل بسبب غلق المؤسسات الإعلامية ومحاولة تكميم الأفواه،
من المؤكد أن المرور إلى نقطة ترتيب بيت الإعلام الجزائري نحو تقنين الممارسة الإعلامية من واجبات وحقوق، تضع على رأس الأولويات تشجيع الموارد البشرية أو الرأسمال البشري، وتحيين طرق تدريس الإعلام في علاقة مباشرة مع العلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة، وتحفيز الكادر الجامعي في كليات الإعلام من جهة أخرى ينشد ممارسة إعلام خادم للتنمية، بغية تكوين يساير التقنية التي أصبحت "سلطة خامسة".