08-يونيو-2024
المشمش الجزائري

المشمش الجزائري (تركيب: الترا جزائر)

يتوقع، هذا العام، أن يحقق موسم جني المشمش الذي انطلق منذ أسابيع بولايتي المسيلة والجلفة، وسط البلاد، على أن يستمر مع مطلع شهر جوان بولاية باتنة، شرق الجزائر،أرقاما معتبرة، بالنظر لمعدلات التساقطات المطرية الهائلة طيلة فصل الشتاء، شريطة ألاّ تتعرض المحاصيل الوفيرة لنوبات الرياح أو البرَد، تلك التي قد تحيلها إلى يباب في لمح البصر، فواحدة من أهم مشكلات هذه الفاكهة الفضية اللذيذة هي الهشاشة وسرعة التلف.

يشكل موسم الجني بمدينة نقاوس والبلديات المجاورة لها، جنوب غرب باتنة، عرسا اقتصاديا واجتماعيا يسمى عيد المشمش

يشكل موسم الجني بمدينة نقاوس والبلديات المجاورة لها، جنوب غرب باتنة، عرسا اقتصاديا واجتماعيا يسمى عيد المشمش،الذي يتيح للفلاحين تحصيل ثروة لازمة للعيش على مدار العام، كما يمكن ربات البيوت من صناعة عولة العام من المربى، وعصير لُباب المشمش المستهلك في الأعراس والأفراح، على أن يجمد جزء منه في الثلاجات خصيصا لشهر رمضان القادم.

1

المشمش ليس مجرد ثمرة استهلاكية، بل رأسمال وطني تأسس من الصفر ليصبح بعد ثمانين عاما، قصة نجاح جعلت الجزائر بلدا رائدا على الصعيد العالمي، ومتفوقا في سوق المشمش على دول عريقة مثل إسبانيا وإيطاليا.

رحلة المسيلي

بدأت الملحمة الفعلية لزراعة المشمش بمدينة نقاوس، جنوبي غرب ولاية باتنة، شرق الجزائر،على يد عائلة زغلاش التي دأبت على الاستقرار بالمدينة، في فصل الصيف، هربا من حر ولاية المسيلة، بين أعوام 1887 و1900.

استوطن بنو المسيلي كما يلقبون ببساتين البلدة وفيرة المياه، لما احتوته من منابع بلغت 99 نبعا أكبره نبع رأس العين الذي كان يتدفق بقوة 360 لتر/ ثانية.

في العام 1940 قرر الجمعي عبد الله زغلاش المكنى محمود أن يغرس بواكير أشجار مشمش جاء بها من المسيلة، فاشترى قطعة أرض بجنان الباطوار مساحتها ثلاثة هكتارات، ثم سرعان ما تحولت إلى مشتلة بعد نجاح التجربة التي أثمرت فاكهة شهية وطرية في العام 1942، أما المفاجأة المذهلة فكانت مثلما رواه لنا ابن شقيقه الجمعي زغلاش عبد الوهاب، قبل سنوات:" أظهرت النتائج أن أشجار مشمش نقاوس كانت أكثر جودة ومردودية من نظيرتها في المسيلة، فحرضه ذلك على توسيع الزراعة لهكتارات إضافية".

4

في غضون سنوات قليلة بدأت بساتين المشمش تظهر للوجود في محيط غير ملائم تماما، لكنها كانت تغري القلة على خوض المغامرة غير محسوبة النتائج، خاصة مع ظهور نوعيات ممتازة للثمرة.

 أمّا الصعوبة فكانت تحكّم عادات زراعية سابقة، تعلقت بزراعة الحشيش الذي اشتهرت به المنطقة خلال أعوام الثلاثينيات والأربعينيات، وخمسينيات القرن الماضي، وانتشر استهلاكه على نطاق واسع في المقاهي والأسواق والجلسات في شكل ظاهرة اجتماعية وأخلاقية مقلقة، يدر سوقها أموالا طائلة.

"الحشيشة" النقاوسية

اشتهرت منطقة نقاوس بشيوع صنف من المخدرات عرف بمسمى " الحشيشة النقاوسية"، لدرجة أن المطرب القبائلي الكبير، صالح سعداوي، ابن منطقة أحنيف بالبويرة، أفرد لها أغنية خاصة حملت طابع الفن الإصلاحي الساخر يقول في مقطعها الأول: " خلوه في حالو مزطول يتكيف حشيشة نقاوسية".

وقد كانت تلك النبتة مسموحا بزراعتها من قبل السلطات الفرنسية نظرا لعوائدها المالية، من ناحية، ولمساهمتها من ناحيةأخرى، في تخدير الوعي الوطني في منطقة عرفت بنزعتها الثورية التحريرية.

لم تكن نوايا السلطات الفرنسية، بعيدة عن استراتيجية الإمبراطورية البريطانية التي رعت تجارة واسعة للمخدرات بالصين، ما تسبب في حرب الأفيون الشهيرة.

الثورة والحريق

قوبل استفحال الظاهرة بانتقادات واسعة، من طرف محمود المسيلي الذي حثّ السكان على التوجه صوب زراعة المشمش بدل المخدرات.

يؤكد ابن المنطقة حسان موني، وهو إعلامي وإطار سابق بمصبرات نقاوس،لـ "الترا جزائر" ذلك، قائلًا: " لا يجب أن ننسى أن الشيخ البشير الإبراهيمي الذي زار المدينة، في أربعينيات القرن الماضي في إطار النشاطات الإصلاحية لجمعية العلماء المسلمين، كان واعيا بحجم الظاهرة المستفحلة لذا فقد حث المزارعين على التوجه إلى بدائل زراعية أخرى عوضا عن الحشيش النقاوسي".

لم يفلح الخطاب الإصلاحي في اجتثاث ظاهرة اقتصادية بدت مستحكمة اجتماعيا، لكن انطلاق ثورة التحرير في العام 1954 ساهم بشكل غير مباشر في إنهاء حرب الأفيون الجزائرية. ففي العام 1958 صدر قرار الحظر النهائي لزراعة الكيف، لسببين، الأول هو تزايد الضغط الدولي ضد تجارة المخدرات عقب ميلاد منظمة الصحة العالمية العام 1948، والثاني كان تخوف السلطات الفرنسية من احتمالية لجوء خلايا الثورة الجزائرية بعد أربع سنوات من انطلاقها إلى استعمال أسلوب "الحرب القذرة" التي تعني ضخ عائدات الكيف في تمويل صفقات السلاح المجلوبة عبر شبكات دولية متخصصة.

1

في نقاوس، لا يزال المتقدمون في السن الذين حضروا عمليات الحرق الكبرى لبيادر من نبات الحشيش المقتلع من البساتين، العام 1958، يتناقلون هذه الطرفة التي وقعت في منطقة الحواجب، فقد شكلت المزروعات المحروقة غمامة دخانية سوداء أصابت سكان بلدات مجاورة بينها بريكة الواقعة على بعد 30 كلم بالدوخة والدوار و " السَطلاَن" المجاني.

غضب بومدين

شكل إتلاف حقول الكيف نهاية الخمسينيات، بداية حقيقية لشيوع غراسة المشمش تدريجيا، ذلك البديل الجاهز الذي ارتفعت وتيرته بشكل ملحوظ عقب الاستقلال، ففي العام 1976 حققت نقاوس إنتاجا خرافيا بلغ 30 ألف طن، ما أربك التعاونيات الفلاحية المنشأة على أعتاب الثورة الزراعية، في كيفيات استغلاله.

خلف فائض الإنتاج الذي كانت تلك التعاونيات تشتريه من المنتجين لتداري على سمعة الثورة الزراعية على الورق قبل أن يفضحها الواقع، واقع أنها كانت ترمي بتلك الحصص المشتراة من الفلاحين في الوديان كي تحافظ على النشاط الفلاحي، ولو بتحمل خسائر مالية كبيرة، ولكن صورة واحدة كفت لتعجل بإيجاد بدائل صناعية لمعالجة مشكلة الكساد وغياب الصناعة التحويلية لهذه الثمرة قصيرة الحياة سريعة التلف.

امتد مخطط بومدين إلى إنشاء وحدات متخصصة في التحويل، شملت شعبة الحمضيات بكل من البليدة وبوفاريك ورمضان جمال في سكيكدة وغليزان وتلمسان والقصر ببجاية وبني حوى في الشلف

يقول السيد عبد الرزاق معامير وهو من كبار منتجي المشمش لـ "ألترا جزائر": "في عام 1976 نشرت جريدة وطنية على صدر صفحتها الأولى صورة تظهر أحمرة يتناولون مشمشا مرميا في وادي نقاوس، وأثار المشهد غضب الرئيس الراحل هواري بومدين الذي كان يخوض حروبا سياسية دولية معقدة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

كان من غير اللائق لدولة كانت تقود تيارا دبلوماسيا نشطا، يتولى حل النزاعات المستعصية عبر العالم أن تفشل في تسيير بستان مشمش، لذلك قرر الرئيس الشروع الفوري في تأسيس وحدات إنتاج تحويلية.هكذا ولد مصنعا نقاوس و منعة مطلع الثمانينيات، وساهما في استقرار السوق والأسعار".

امتد مخطط بومدين إلى إنشاء وحدات متخصصة في التحويل، شملت شعبة الحمضيات بكل من البليدة وبوفاريك ورمضان جمال في سكيكدة وغليزان وتلمسان والقصر ببجاية وبني حوى في الشلف، وكل هذه المؤسسات كانت تحت وصاية الشركة الوطنية للعصير والمصبرات الغذائية الشهيرة "سوجيديا".

مع مطلع الثمانينيات بدأت وحدة نقاوس في إنتاج عصيرها ذائع الصيت،كما تميز إنتاجها للُباب المشمش بجودة عالية ومركزة،ما ساهم في امتصاص 6 ألاف طن سنويا، وأما الإيطاليون فكانوا يفدون للمدينة لشراء الأنوية بغرض استعمالها في صناعة الحلويات.

المناخ المتحرك

استمرت الطفرة بفضل برامج الدعم الفلاحي في التسعينيات، ما أوجد بالضرورة حقولا شاسعة وبساتين كثيرة في بلديات محاذية مثل سفيان وبومقر وأولاد سي سليمان و تاكسلانت و رأس العيون، ليقارب الإنتاج سقف 100 ألف طن في سنوات الأوج و الذروة.

في الأعوام الأخيرة فقدت نقاوس التي كانت منطلقا حقيقا لهذه الثمرة بريق الماضي جراء تحولات اجتماعية مست البساتين الكبرى التي تعرضت للقسمة بين الورثاء، ودفعت قلة الأمطار العديد من المنتجين للتوجه نحو زراعة الزيتون.

وفي هذا الصدد يوضح حسان موني قائلا: " لعبت التحولات الاجتماعية دورا في تراجع المشمش في مدينة نقاوس، لقد تسبب اقتسام البساتين بين الورثاء إلى تخلي الجيل الجديد عن العمل المضنى في البساتين لصالح نشاطات تجارية سريعة المدخول، كما تسببت حشرة الكابنود في انحسار مساحات شاسعة جراء تيبس الأشجار، ناهيك على أن بساتين اللوزيات مثل المشمش لها مدة حياة لا تتعدى 25 سنة، ما يفرض تجديد الزراعة باقتلاع الأشجار الشائخة و استبدالها بأخرى ناشئة، فيما لجأ كثيرون لزراعة الزيتون بدل المشمش تفاديا للاستهلاك الواسع للمياه بعد موجة ندرة المياه التي عصفت بالمنطقة، بيد أن ذلك وقع بعدما لعبت نقاوس دور ناقل هذه الثمرة لبلديات مجاورة أضحت ذات إنتاج كثيف عوضت تشبع تربة نقاوس".

 أما السيد معامير فيعلق: " عوامل كثيرة وراء الانحسار، بينها زحف البناء على حساب البساتين، و الإجهاد المطري، هناك تغير مناخي عمل على ازدهار المشمش في مناطق مجاورة مثل أولاد سي سليمان التي تحتل الريادة حاليا".

الصعود للعالمية

في واقع الحال يبدو مؤشر الخريطة المناخية لانتشار زراعة المشمش متجها غرب نقاوس نحو البلديات والدوائر المتاخمة لها حتى دائرة عين أزال بولاية سطيف،وصولا إلى ولاية المسيلة، جنوبا.

وكما لو أن التاريخ يرد الدين لصاحبه عادت تلك الزراعة إلى موطنها الأول بولاية المسيلة التي نزحت منها بداية أربعينيات القرن الماضي، فعلى مدار العقدين الماضيين تحولت مناطق سهبية شاسعة إلى مراكز كبيرة لإنتاج المشمش مثل بوسعادة، ثم نحت تلك العدوى المحمودة إلى مناطق أخرى بولاية الجلفة التي أضحت هي الأخرى قطبا متخصصا، يتمحور حول دائرة مسعد، لتشكل الولايات الثلاث إقليما ممتازا لموطن هذه الفاكهة.

سمح الحلف المناخي للولايات الثلاث المنتجة لجل مشمش البلاد، أن تتبوأ الجزائر مكانة متقدمة في الإنتاج الدولي خاصة في السنوات الأخيرة.

 في عام 2008 حققت البلاد الرتبة السادسة عالميا بإنتاج وفير بلغ 145 ألف طن حسب إحصاء منظمة الزراعة العالمية، ثم ارتفعت الغلة عام 2021 إلى 190 ألف طن لتتصدر أفريقيًا،وتعاود الكرة العام 2022 برقم قياسي تخطى حدود 256 ألف طن.

في العام 2023، بصمت الجزائر نهائيا على صدارة إنتاج المشمش جهويا وقاريا،عندما احتلت الصف الأول على مستوى دول الجامعة العربية ونطاق إفريقيا، بإنتاج بلغ أكثر من 189 ألف طنا،احتكرت به رتبتها الرابعة عالميا،بعد تركيا وأذربيجان وإيران، معززة السمعة الدولية في إنتاج هذه الثمرة السكرية الصفراء ومكرسة لتطور لافت في مجال الزراعة عموما.