17-يونيو-2024
أموال محجوزة - الدينار الجزائري

(الصورة: فيسبوك)

أظهرت المحاكمات التي عرفتها أروقة العدالة ضد رموز نظام الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة تجاوزات جسيمة عرفها الاقتصاد الجزائري، جرّاء حالات الفساد المرتكبة التي كان اللجوء إلى تبييض الأموال أحد طرقها للتغطية على جرائم النهب والمخالفات المرتكبة، الأمر الذي جعل مكافحة هذه الظاهرة ضمن الأولويات التي اهتمّ بها المشرع الجزائري، فهل القوانين الحالية قادرة على تقليص هذه الآفة المالية؟.

يرجّع مختصون التصنيفات السيئة للجزائر في مجال مكافحة تبييض الأموال إلى عدم تمكّن الحكومة من تقليص من حجم السوق الموازية

ورغم أن الجزائر ليست من جنّات التهرب الضريبي وتبييض الأموال المعروفة عربيًا وعالميًا، إلا أن التصنيفات الدولية التي تصدر بشأن مكافحة غسل الأموال لا تضعها في مراتب جيّدة، الأمر الذي يتطلب من الحكومة عملًا قانونيًا وميدانيًا لمحاربة الظاهرة، بالنظر لأهمية هذا الجانب في تحسين مناخ الاستثمار والأعمال في البلاد.

عدة قضايا

إلى هنا، نظرت الغرفة الجزائية بمجلس قضاء الجزائر قبل أيام في ملف موثّق متهمٍ تبييض الأموال وتقديم تسهيلات للغير والثراء غير المشروع، عقب ضبط مبلغ يفوق تسعة ملايير سنتيم داخل خزانة فولاذية بمكتبه، وفق ما نقلت صحيفة الشروق مؤخرًا.

وتم الإيقاع بالمتهم إثر ضبطه من قبل مصالح شرطة الحدود على مستوى المطار الدولي هواري بومدين، وهو بصدد تهريب 56 ألف يورو خلال استعداده للسفر نحو دولة أجنبية، من دون التصريح به لدى مكتب الجمارك.

وكيّفت الجهات القضائية ملفه ضمن تبييض الأموال بعدما تم العثور في مكتبه على مبلغ مالي آخر.

وليست هذه القضية الوحيدة التي تطلعنا عليها الصحافة والتقارير الأمنية والقضائية بين فترة وأخرى، فنهاية نيسان/أفريل الماضي أعلن مجلس قضاء الجزائر معالجته لقضية شبكة إجرامية ناشطة في مجال تبييض الأموال وإخفاء العائدات الإجرامية الناتجة عن ممارسات تجارية مشبوهة في مجال تجارة التبغ.

وكشف التحقيق الابتدائي تورّط صاحب شركة التبغ في استعماله سجلات تجارية لأشخاص لا تربطهم بها علاقة تجارية مقابل تلقيهم لمبالغ مالية لتبرير المصدر غير المشروع لهذه الأموال التي أودعت لاحقًا ببنوك مختلفة بأسماء المشتبه فيهم لمنع اكتشاف مصدرها المشبوه المتأتي من التهرب الضريبي وتبييض الأموال علاوة على ضبط مبالغ مالية مزورة بالعملة الوطنية.

وحجزت نيابة الجمهورية أملاكًا عقارية ومنقولات وأموال موجودة بالحسابات البنكية ومعادن ثمينة بمبلغ يفوق 543 مليار سنتيم، إضافة إلى إيداع 12 شخصًا بتهم لها علاقة بتبييض الأموال.

وفي بداية العام الجاري، تمكنت المصلحة المركزية لمكافحة الجريمة المنظمة التابعة للأمن الوطني من وضع حدٍّ لشبكة إجرامية مختصة في تبييض الأموال المترتبة عن التهرب الضريبي على مستوى بلدية أولاد موسى بولاية بومرداس تتكون من ستة اشخاص.

وكانت الشبكة  تستعمل فواتير صورية وتعاملات مالية في مجال تجارة الحديد بالجملة في عملية غسل الأموال كبّدت الخزينة العمومية ضررًا ماليًا معتبرًا بأولاد موسى، والتي وجهت لعناصرها تهمة تبييض الأموال على سبيل الاعتياد في إطار جماعة إجرامية ومخالفة التشريع والتنظيم الخاصين بالصرف وحركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج.

ويلفت الخبير الاقتصادي البروفيسور مراد كواشي في حديثه مع "الترا جزائر" إلى أن الجزائر باشرت منذ ثلاث سنوات "حربًا ضروسًا" ضد الفساد الذي مس البلاد خلال العقدين الماضيين بكل أشكاله، ومنها تبييض الأموال.

ويرى كواشي أن استمرار هذه الآفة الاقتصادية التي تنظر فيها العدالة الجزائرية من فترة إلى أخرى مرده حجم الفساد الكبير الذي ارتكب خلال الفترة السابقة، وأصبح مستشريًا في الإدارة ووسط رجال الأعمال الذين يجدون في تبييض الأموال طريقًا لإخفاء تجاوزاتهم.

مهمة شاقة

يعتقد أستاذ الاقتصاد بجامعة أم البواقي مراد كواشي أن استئصال ظاهرة غسيل الأموال التي تنظر فيها العدالة ليس بالمهمة السهلة على الإطلاق، الأمر الذي يتطلب اتخاذ إجراءات متعدّدة للحد منها.

وبيّن كواشي أن الإشكال يكمن في أن هذه الظاهرة لا ترتبط بالداخل الجزائري فقط، إنما توجد لشبكات تبييض الأموال ارتباطات خارجية تجعل الإطاحة بها والحد من نشاطها يستغرق وقتًا وإجراءات قضائية ودبلوماسية عديدة لاسترجاع الأموال المعنية بالتبييض، وفق ما أوضحه لـ"الترا جزائر".

ولمكافحة هذه الظاهرة، أنشأت الجزائر اللجنة الوطنية لتقييم مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل التي تم تنصيبها في 2021.

ودعا وزير المالية لعزيز فايد خلال ترأسه اجتماعًا للجنة بداية الشهر الجاري إلى وجوب أن تنظر هذه الهيئة الحكومية في "إشكالية التطوير الشامل لنظامنا الوطني لمكافحة تبييض الأموال سواء من حيث مطابقة قوانيننا للمعايير الدولية أو من حيث ضمان فعالية الإجراءات المتخذة في هذا الصدد".

ودعا فايد "جميع المشاركين إلى تكثيف وتنسيق الجهود للدفاع عن موقف بلادنا أمام الهيئات الدولية المتخصصة، فيما يتعلّق بتثمين الإجراءات المتخذة لتحسين مطابقة وفعالية نظامنا الوطني. كما حثّ جميع الأطراف المعنية على تعبئة موارد ذكائنا الجماعي لتحقيق الهدف المنشود".

ولا تضع التقارير الدولية الجزائر في مراتب جيدة تتعلق بمكافحة تبييض الأموال، فعلى سبيل المثال منح معهد بازل للحوكمة في تصنيفه السنوي حول مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب الصادر في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجزائر 7.22 نقطة من عشرة، وهو تقييم سيء للغاية. ما يضعها في المرتبة 12 عالميًا.

ويعتمد المعهد معدلات من 0 إلى 10، حيث تُمنح نقطة الصفر إلى الدول الأكثر شفافية والتي لديها قوانين "صارمة" ما يسمح لها بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، في حين تُمنح النقطة 10 إلى الدول التي تعاني من مستويات عليا من غياب الرقابة على الأموال.

ويرى البعض أنها هذا التصنيف لا يأخذ الترسانة الترسانة القانونية التي وضعتها الجزائر لمكافحة تبييض الأموال وتطويقها، وهو الرأي الذي يوافقه الخبير الاقتصادي مراد كواشي الذي يعتقد أن بعض التقارير الدولية  تفتقد للمصداقية، بالنظر لوجود تصنيفات أخرى تشير إلى أن الجزائر عرفت تقدمًا في مكافحة الفساد بتسع درجات، وهو ما يتطابق مع ما تبذله الحكومة في هذا المجال.

وأظهر مؤشر التصنيف العالمي لمكافحة الفساد 2023 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية تحسن تصنيف الجزائر التي احتلت المرتبة 104 عالميا من 180 دولة بحصولها على 36 نقطة من أصل 100، بعدما كانت في المرتبة 116 في تقرير سنة 2022 والمرتبة 117 في 2021.

نقطة سوداء

يرجّع مختصون التصنيفات السيئة للجزائر في مجال مكافحة تبييض الأموال إلى عدم تمكّن الحكومة من تقليص من حجم السوق الموازية التي تطبع الاقتصاد الجزائري، وبالخصوص السوق السوداء للعملات والمعادن وفي مقدمتها الذهب، والتي يرون أنها أحسن فضاءٍ لتبييض الأموال في الجزائر، كون كل المعاملات تتم خارج الرقابة الحكومية سواءً الضريبية أو البنكية.

ولا ينكر البروفيسور مراد كواشي أن السوق السوداء في الجزائر تمثل أحد الأذرع المستعملة من قبل الشبكات الإجرامية لتبييض الأموال، الأمر الذي يتطلب اتخاذ إجراءات فعالة كفيلة بتطويق هذه الظاهرة، بتقليض نشاط السوق الموازية، أو إدماجه في السوق النظامية، خاصة وأن قيمته المالية كبيرة، حيث تصل ربما إلى غاية 90 مليار دولار حسب بعض التقييمات.

ويرى كواشي أن عملية الرقمنة التي باشرتها الحكومة في المدة الأخيرة من شأنها التقليل من السوق الموازية، وكذا المساهمة في مكافحة جرائم تبييض الأموال.

أستاذ الاقتصاد بجامعة أم البواقي مراد كواشي لـ "الترا جزائر": استمرار هذه الآفة الاقتصادية التي تنظر فيها العدالة الجزائرية من فترة إلى أخرى مرده حجم الفساد الكبير الذي ارتكب خلال الفترة السابقة

لا أحد ينكر أن الحكومة اتخذت عدة تدابير قانونية للحد من جرائم تبييض الأموال التي قد ترتبط بجرائم أخرى كالإرهاب، وذلك بمراجعتها بقانون الصرف والنقد وإلزام التجار بإجبارية الفوترة والتبليغ بالممتلكات ومحاربة المضاربة ورقمنة المعاملات وسنّ قوانين لفتح مكاتب صرف العملة، إلا أن ما يساهم في استمرار هذه الآفة رغم وجود هذه الترسانة التشريعية هو أن كثير من هذه النصوص لا تترجم ميدانيًا الأمر الذي يجعل القضاء هو الطرف الوحيد الذي يحاول التقليص من جرائم غسل الأموال.