18-يوليو-2020

الجزائر سجّلت أعلى معدل إصابات في شهر جويلية (الترا جزائر)

نقرأُ ونشاهد منذ بداية انتشار وباء "كوفيد-19" المستجد، كثيرًا من الأخبار والعواجل متفاوتة الخطورة والصدق، وبين التضخيم والاستهانة والجدية والاستهزاء، يبقى هذا الوباء شبحًا حقيقيًا يبعث بلا هوادة، آلاف الإحصائيات اليومية عبر العديد من المواقع وقنوات الأخبار، وصفحات التواصل الاجتماعي، ومع تزايد المآسي النفسية والمجتمعية التي بات يعاني منها الناس من فرط الجلوس في المنازل، بات الجميع لا يعرفون ما يحدث خارج عوالمهم المُغلقة تلك، تارة التزامًا وأحيانًا رعبًا من انتشار الفيروس.

ماذا يحدث في "البؤر الحمراء" التي تعدّ بيئة حاضنة لوباء "كوفيد - 19" داخل المستشفيات الحكومية؟

مع ذلك، يطفو إلى السطح ذلك السؤال الذي ينسلُّ من بين ثنايا مخاوفنا، مع أنه لا يُرَدّدُ إلا قليلًا، وبصوتٍ خافتٍ تحجبُه أصوات أعلى لأعداد الوفيات ونسب الشفاء والإجراءات من تمديد ورفعٍ للحجر.

اقرأ/ي أيضًا: استمرار ارتفاع حالات الإصابة بكورونا وانخفاضٌ في الوفيات

ماذا يحدث في "البؤر الحمراء" التي تعدّ بيئة حاضنة لوباء "كوفيد - 19" داخل المستشفيات الحكومية؟ كيف يُعايش السلك الطبّي من أطبّاء وممرّضين وعمّال نظافة، وصولًا إلى الإداريين هذه الظروف القاسية؟

ما الذي يكابده هؤلاء الأبطال المختبئون تحت بدلات الوقاية وأقنعة الحماية؟ وعلى من يقع اللوم الحقيقي إذا ما تحدّثنا عن التقصير وانفلات الأمور عن السيطرة؟

حينما تولد الفكرة

أرّقت هذه التساؤلات شابّينِ من مدينة قسنطينة، أحدُهما فنانٌ تشكيليٌّ، والثاني مخرج ومصوّر محترف، يعملان بشكلٍ مستقل وبلا دعم رسميّ، إذ قرّر أنور أبو صالح، ونعيم خليفة، الذهاب نحو أفراد السلك الطبّي المتواجدين في الخفاء تحت بدلاتهم المثقلة بالمسؤولية والخوف في مستشفى قسنطينة الجامعي "ابن باديس"، والاحتكاك بهم رغم صعوبة الأمر، لكن هذا الاحتكاك جاء لنقل الصورة بشكلٍ فنٍّي محض، يوغل في الذات الإنسانية لهؤلاء.

حاول الإثنان نقلَ معاناة هؤلاء البشر وظروفهم الحقيقية كلٌّ من منظوره، وكُلٌّ بالطريقة التي يحترفها، وبما أن المشروع هو بالأصل عبارة عن فكرةٍ واعدة لمعرضٍ فنّي يكرّم من خلاله الفنانان هؤلاء الناس، لأثرِ ما لمسوه فيهم إنسانيًّا أثناء العمل والتصوير، آثر موقع "الترا جزائر"، أن يرافق انطلاقة هذا المشروع النابع عن مبادرة شخصية محضة، لينقل ظروف إنجاز العمل، حيث يُراهن صاحباه على تجسيده قريبًا إذا ما وجدا الدعم المناسب لذلك.

التصوير توثيق للمِحَن

في حديث إلى "الترا جزائر"، قال المصوّر نعيم خليفة، أن فكرة المشروع كانت من اقتراح وتنسيق صديقه الفنّان التشكيلي أنور أبو صالح، حيث أخبره هذا الصديق عن نيّته لزيارة قسم الإنعاش بالمستشفى الجامعي ابن باديس بقسنطينة، بغية التوثيق والكشف عن الوضع الذي تمرّ به هذه المصلحة.

وأضاف المصوّر، أنه وافق دون تردد، لكن بعد تلك الموافقة بدأ بالتفكير جديًا في ما يمكن تناوله عبر هذا المشروع، إذ خَلُصَ إلى أنّ هذه التجربة يجب أن تكون إنسانيةً بالدرجة الأولى، خاصّة بالنسبة له شخصيًا كإنسان عاش في قلب الجائحة والحجر منذ أكثر من شهرين، إضافة إلى خلق تجربة فنيّة وَجَب أن تُخلّد في الذاكرة الإنسانية، لهذا بدأ بالتنسيق مع معارفه في المستشفى وتم تحديد موعد الزيارة يوم السادس من حزيران/جوان الفارط، فور طرح الفكرة.

وجوه المعاناة الحقيقية

شدّد نعيم في حديثه على أنه لم يضع إطارًا محددًا لهذا المشروع، لأنه لم يحتكم على معطيات كبيرة، فمعلوماته عن هذا المكان كانت منحصرة في ما تابعه عبر الأخبار كبقية الناس.

وقال المتحدّث، إن العديد من نقاط الاشتغالِ كانت مبهمة، ففضّل التّعاطي مع الأمور كما هي عند قدومِ موعد الزيارة؛ لأنه كان يمتلك فضولًا ورغبة شديدين لرؤية الأوضاع بعينيه، وليستمع لهؤلاء الأشخاص شخصيًا، مع ذلك، كان الاحتكاك في بادئ الأمر غريبًا نوعا ما، بحكم أن الجميع كانوا يرتدون الأقنعة والبدلات الواقية، ولم يستطع رؤية وجوه أفراد الطاقم الطبّي إلا بعد انتهاء الجولة ومداومتهم حسبه.

في هذا السياق، قال المصوّر أن الاحتكاك مع الطاقم كان صوتيًا فقط في البداية، حيث اختفت تعابير الوجوه خلف الأقنعة، ولم يكن هناك سوى صوتٍ وحركات، وعند ارتدائه للبدلة الواقية، أحس بأنه انفصل عن العالم الخارجي، وكأنّه فقد الجاذبية كرجل فضاء، لا يدري مع من يتعامل، أجسادٌ مغلفة بالبدلات الواقية، وهذا ما صعّب عليه التواصل الذي يحتاجه في عمله مع الآخرين خلال التقاط الصورة، بعد انقضاء ربع ساعة، يقول نعيم: "بدأت أحس بضيق وعدم أريحية مما كنت أرتديه".

لم تكن هناك مساءلات ولا اعتراض لعمله وعمل صديقه يضيف المتحدّث، حيث كان لهما في بادئ الأمر حديث مطوّل مع البروفيسور بودهان، الذي راقت له فكرة هذا المشروع الفني والإنساني، فراح يتحدّث عن تاريخ المصلحة وإنجازاتها الطبية عبر السنوات الفارطة، كما تحدّث عن الجائحة وكيف تم التعامل معها من طرف جميع أفراد المصلحة، حيث لم يخفِ البروفيسور، بحسب نعيم، هواجسه وتخوّفاته على وضع طاقمه وفريقه من خطر انتقال الفيروس، وهو ما يراه البروفيسور كابوسًا حقيقيًا.

أوضاع قسم كورونا بن باديس

عبّر نعيم عن حيرته بالقول: " أعتقد أن المشهد معقّد، إذا كنا نتحدث عن وضع القسم، فهو لا يرقى في اعتقادي إلى الحدّ الأدنى الذي وجبَ أن يكون عليه، حتى أنه لا يعكس تاريخه الحافل، باعتباره أوّل قسم إنعاش وعناية مركزة أنشئ في الجزائر، وأن أوّل عملية زراعة أعضاء في البلد تمت به.

لقد كان وما زال الوضع به سيئًا، لكن مقارنة بمحنة هذا الوباء الذي نعيشه، لمستُ بشكلٍ واضحٍ، ومثير أن للطاقم الطبّي عزيمة وقوّة وأملًا. إنه لشيء رهيب، كانوا يحاولون بكل جهد وعزيمة العمل في أحلك الظروف، ويقدّمون جهدًا جبارًا، مقارنة مع ما تملكه دول أكثر تقدمًا وتطوّرًا من إمكانيات ومعدات، لقد كان طاقمًا موحدًا من نساء و رجال، يواجهون عدوًّا غير مرئي بشجاعة وعزيمة كبيرين، أشخاص لم يعودوا إلى بيوتهم منذ مدّة طويلة فاقت الشهرين، بعيدون عن أهلهم وعائلاتهم، منهم نساء متزوّجات ولديهن أطفال لم ترينهم منذ مدة طويلة، وهناك من لم يزر والديه منذ فترة أيضًا، مع كل ما مرّ من مناسبات كشهر رمضان وعيد الفطر".

 

من ينقذ الأطقم الطبية من الإهمال؟

لمس المتحدث تضحيّات حقيقية وملموسة، مع أن أكثر ما شدّ انتباهه وألهمه ليخوض المعالجة الفنية خلال هذه الزيارة حسب حديثه، هو غياب  كلمات الامتعاض أو الشكوى، فقد أكّد أنه لم يلمس أي سخط من الطاقم الطبّي بكامله بلا استثناءن رغم النقائص الواضحة، كان كلام الطاقم في معظمه متمحورًا حول كيفية تجاوز المواقف الصعبة التي تواجههم، حول التضامن بينهم، وكيف يتابعون عبر المواقع المتخصّصة ومواقع التواصل، كل التجارب والطرق في ولايات أخرى، وحتى في بعض بلدان عبر العالم.

 طرح المخرج تساؤلًا بعد التصوير على أفراد الطاقم، وهو كيف تمكنّوا من العمل في مثل هاته الظروف، وتحت هذا الضغط بهاته البدلة "اللعينة"؟  لم يكن هناك في إجاباتهم امتعاضٌ أو شكاوي حسبه، بل غلبت الأماني والرغبات في تحسّن ظروف قطاع الصحة عمومًا، ونقلوا كل انشغالاتهم عبر الكاميرا الخاصّة به بكل أريحية.

 العودة إلى الفن

من جهته، قال الفنان أنور أبو صالح لـ "الترا جزائر"، إن فقدانه لوالدته عندما كان طالبًا في مدرسة الفنون الجميلة بقسنطينة، كان حدثًا تراجيديًا جعله يغيّر أسلوبه في فنّ الرسم من التجريد إلى رسم البورتريهات والشخصيات، بحثًا عن ملامح أحبته، وبعد سنة ونصف من وفاة والدته، كان والده مريضًا جدًا أيضًا، حيث قضى معه آخر ليلة مُجالسا له، يرسم له بورتريه وهو على سرير المرض، قبل أن ينتقل إلى جوار ربّه في الصباح الموالي.  

أضاف أنور، أنه أنهى بعدها مباشرة أوّل سلسلة من البورتريهات الشخصية التي كانت بالأصل تحية لوالديه الراحلين، حيث تم عرضها في المعهد الفرنسي في قسنطينة، وفي عدّة مدن عبر الوطن، ولكن مع سيطرة مرارة الخسارة عليه، أمضى عدة سنوات في متاهة بعيدًا عن الرسم، ولم يتمكّن إلا مؤخّرًا من استعادة قدرته على ممارسة الفنّ الذي كان قد تركه في غرفة المستشفى، حيث احتضن المرض والموت والده.

إن الوباء الذي يسيطر على العالم منذ أشهر، إضافة إلى الخوف والمعاناة، كانت الحافز لخروج ما كان حبيسًا في داخله ومخيلته، خاصّة مشاهدته لكل تلك المعارك التي يخوضها الطاقم من الرجال والنساء، من الأطباء والممرّضين، والمعالجين والمناوبين، وهذا ما دفعه إلى التفكير في الاتصال بصديقه نعيم واقتراح المشروع عليه.

هنا، يؤكّد الفنان أنه لم يكن من السهل أبدًا الحصول على إذنٍ ليتمكن من بدأ العمل كما تصوّره، ولكن الفكرة سرعان ما انتقلت بين العاملين في المجال الطبّي وتم الترحيب بها، خاصّة من طرف البروفيسور بودهان، الذي لم يتأخّر أيضًا في الردّ بالإيجاب على هذا المشروع.

حينما تلقّى الفنان الموافقة، اتصل بصديقه واقترح عليه أن يباشرا تجسيد فكرة إقامة معرض ثنائي يجمع بين الصور الفنية الفوتوغرافية، واللوحات الفنية التي تنقل معاناة السلك الطبي والمرضى على حد سواء في مواجهة هذا الوباء، حيث اعتبر الفنان أن أي مشروع  فني لا يخرج من قلب المجتمع هو فن لا يعول عليه.

الواقع المر الذي نتجاهله

قال أنور إنه خلال يوم التصوير، بدت الشوارع خالية في الصباح، وكان الجو ثقيلًا وخانقًا، ورغم ذلك، كان ما وجداه عند ولوجهما المستشفى الجامعي فاقت وطأته بكثير ذلك السكون الموجود في الخارج.

"نعوشٌ وضعت في ساحة المصلحة، وعند وصولنا لفظت امرأة تبلغ من العمر 78 عامًا أنفاسها نتيجة الإصابة، وسبقتها امرأة أخرى تبلغ من العمر 28 عامًا، حيث أنجبت توأمين لتفارق الحياة بعدها بيومين متأثّرة بفيروس كورونا".

 قابل الشابان  البروفيسور بودهان، الذي لم يتردّد في إبداء تعاونه وترحيبه، كما رافقهما حسب أنور، عددٌ من الأطباء والممرضين الذين ساعداهما في التجول جناح "كوفيد_19" في قسم الأمراض المعدية.

 يقول الفنان أبو صالح، إن انشغالات الطاقم وظروف عملهم الصعبة لم تسهل عليه العمل على المشروع بشكل جيّد، ويمكن الجزم حسبه بأنها ظروف يستحيل العمل تحتها، لهذا أصرّ جدًا على تسخير نفسه وقدراته على المستوى الأخلاقي والشخصي، من أجل استمرار هذا التقرير الفنّي.

الفن تحت إمرة الإنسانية

أكّد الشابان على أن هذا مشروع فنيٌّ إنسانيٌّ، لتحيّة هذا الطاقم الطبي والاحتفاء به، لأنه دون شك يعكس صورة العديد من الطواقم الطبية هنا في الجزائر، وحتى في دول أخرى، واعتبرا أن هذا العمل هو بمثابة لفت انتباه إلى مجهودات هؤلاء الكوادر وتضحياتهم، رغم نقص الإمكانيات التي كان من المفروض أن توفّر لهم ولقطاع الصحة منذ وقت طويل، إضافة إلى دوره في التوعية ضدّ ما هو منتشرٌ من تهوّرٍ ولامبالاة، ونقص وعي لفئات عديدة من المجتمع، إذ يُستهان أحيانًا بقدرات وجهود هذه الأطقم، كما أن اللوم يقع دائمًا وفقط على الأطباء والطواقم الطبيّة، وهم أيضًا أوّل من يدفع الضريبة في الصفوف الأولى والخطوط الأمامية، مثلما حدث مع الطبيبة التي توّفيت في ولاية سطيف، إضافة إلى بعض حملات السبّ والشتم وتقليل الشأن التي تطالهم.

تسهم مثل هذه الأعمال على إعطاء مساحة أكبر لهم، للرفع من معنوياتهم الأطباء

واجبات مقدسة

تحدث نعيم هنا، عن واجب الفنانين في تسليط الضوء لتأريخ هذه المرحلة، وتكريم الناس الذين يقفون في "وجه المدفع"، فهم دائمًا ما يدفعون ثمنًا باهضًا وضريبة ثقيلة، رغم ما يقدّمونه من تفانٍ وتضحية عندما يحدث تقصير ما، في حين تذهب التكريمات والأوسمة لغيرهم، إضافة إلى ضرورة تنبيه الناس لطرح الأسئلة الصحيحة، مما يساعدهم  حسب المتحدث، على فهم بعض الأمور ربّما، كما ستسهم مثل هذه الأعمال على إعطاء مساحة أكبر لهم، للرفع من معنوياتهم ومن معنويات من يحلمون بأن يصبحوا يومًا أطباء، فبين الموت والحياة قد تتعدد الأسباب، لكن يبقى هناك خيط هش جدًا يعمل فوقه هؤلاء، ويحاربون للحفاظ على ما استطاعوا. ما الذي يمنعهم من الانسحاب سوى ما هم عليه في الحقيقة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

فتوى جديدة للجنة الإفتاء.. كسر الحجر الصحّي حرام

كورونا.. تعديل أوقات الحجر المنزلي في 4 بلديات بالوادي